الشاعر العاصي
لعل السباحة في العاصي علمت شاعرنا كيف يكتب العربية البليغة بدءاً من يسار الصفحة بدل يمينها، لكن ذلك يزيدها جمالاً وبهاءً.
فالرسم على الماء عنوان شاع استعماله فيما مصيره الزوال السريع مقابل النقش على الحجر عنوان اليقاء والثبات...
لكن شاعرنا مع علمه بهذا أبى إلا أن يرسم على الماء لوحة تبقى وتدوم ليوصل بذلك رسالة بخصوصية الماء كاغد اللوحة، كذلك خصوصية الألوان الحاكية والريشة الناطقة...
فالماء هو ماء العاصي الذي عصى ورفض واقع الظلم والحرمان، لكنه ليس عصيان ورفض أحلاس البيوت ، بل هو عصيان يبقى فيه التحرك لأن التوقف يعني النهاية، إنه الماء الصافي النقي الذي يعكس الصورة الحقيقية بنضارتها وحيويتها دون تدليس.
من هنا اختاره الشاعر كاغد لوحته.
أما ألوان اللوحة، فقد اختار شاعرنا لها لونين:
الأول منهما يزيد من خصوصية الإستثناء الذي أبى الشاعر إلا أن يسير في دربها العاصي، إنه لون الماء، فالشكل واحد، وهو بالعادة يمتزج فانياً نفسه في الماء الآخر، فلا يبقى له أثر ولا دلالة، لكن شاعرنا اختار لوناً مائياً رسمه على لوحة مائية مع ذلك تميّز وتألق، لأن ماء اللوحة هو ماء النهر، أما اللون المائي الذي اختاره للوحة فهو عرق مجاهدي المقاومة الإسلامية، فتجملت اللوحة الحاكية عن جمال قوله تعالى: ﴿وهو الذي مزج البحرين هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً﴾ الفرقان/53.
والثاني من اللونين هو اللون الأحمر، إنه دم الشهداء رسمه شاعرنا على لوحة الماء كأرجوانة حمراء تشد الناظرين إليها.
بقيت الريشة الراسمة التي ينتسب إليها جمال التنسيق، لكنها نسبة تجاوزت الحقيقة، ألم تسمع قصة السيف الذي كان يضرب به المثل عند كشف الساق في معارك المسلمين، فطلبه الأمير مجربا فما وجده كما يقولون، فقال له فارس السيف: عفواً أيها الأمير، أعرتك السيف، لكني لم أعرك الساعد..
إن الذي أعطى لرسم لوحة المقاومة على ماء العاصي رونقاً وجمالاً وثباتاً ليس ريشة الشعر فحسب بل اليد التي حملت الريشة، وحملت سلاح المقاومة أيضاً، فلم تكن حكاية الشعر على نحو (كان يا ما كان) بل كانت الحكاية من أهل الحدث المحكي، ولم تكن صورة من خارج مسرح الحدث، بل كانت من مشارك من على منصة المسرح.
وهذا ما منح اللوحة سرّ الجاذبية. وهذا ما دعانا أن نأتي إلى مدينة الشهداء الأولى في لبنان " الهرمل الحبيبة" لنكرّم فيها شاعراً من مسيرة المقاومة والجهاد.
المناسبة: حفل توقيع المجموعة الشعرية "الرسم على الماء"
المكان: قاعة جمعية الإمداد الهرمل