محرقة الكتب
كلمة لسماحة الشيخ أكرم بركات.
المناسبة: إطلاق معرض المعارف الثاني للكتاب العربي والدولي.
عنوان الكلمة: محرقة الكتب.
المكان: نقابة الصحافة اللبنانية.
الزمان: 15/11/2006.
في اتجاه يعاكس التكامل الإنساني انطلقت طائرات صهيو- أميركية بصواريخ القتل والدمار بقيادة إسرائيلية في الثاني عشر من تموز عام 2006م.
مقصدها: ضاحية العاصمة وبقاع أخرى من وطن القلم المسنّن.
هدفها: بشر وحجر وبساتين.
* البشر: هم أصحاب القلوب البيضاء أشدّ من بياض الثلج، والثياب الخضراء الجامعة في خضرتها بين سندس الفردوس وأرز الشموخ، والشالات السوداء المنقطة بلون الدماء كشعيرة تستقي دروس العزة والمنعة من مجمع عاشوراء الثقافي الذي أسس بنيانه سيد الشهداء عليه السلام بروضاته ومدارسه وثانوياته ومعاهده وجامعاته. فالدارسون في هذا المجمع أطفال ونساء وشبان وشيوخ، لذا طالتهم صواريخ الغدر دون استثناء.
* ولم يكن الهدف البشر فقط، بل كان كذلك الحجر.
لعل ذلك لكونه – أي الحجر – الحاضن الدافئ لأبناء مدرسة الشموخ والعزة.
ولعل ذلك كان ثأراً لتاريخ تكرر اندك فيه الحجر خاشعاً لربه، وكانت وما زالت قلوبُ أولئك أشد قسوةً من الحجر.
* ولعلّ ذلك لكون الحجر حامياً لهدفهم الثالث ألا وهو البساتين.
قد تتعجب سامعي الكريم من حديثي عن استهداف لبساتين في ضاحية حرمتها الدولة من الحدائق، لكن تعجّبك ينقضي حينما تعرف مقصدي، فالبساتين المستهدفة في ضاحية بيروت الجنوبية، هي بساتين العلم والمعرفة، على قاعدة قول الحكيم « الكتب بساتين العلماء ».
فقد سمع العالم أن العدو قصف مربعاً أمنياً في تلك الضاحية، لكنه لم يسمع دويّ مخازن الذخائر والسلاح، بل رأى ناراً منبعثة من أوراق ومداد.
فالمربع، هو مربع الكتاب فيه عشرات دور الكتب المليئة بتلك البساتين،كانت مقصداً لصواريخ الحقد المعبّرة عن إصرارهم على إزالة مصادر العلم والمعرفة.
والمربع هو مربع الثقافة، ففيه الكثير من المراكز الثقافية والفكرية والبحثية فضلاً عن رسائل وأبحاث قيمة من أهل العلم والفكر في مجتمع المقاومة، وعن مكتبات خاصة اعتاد أهلنا أن يفردوا لها مكاناً في بيوتهم، استهدفتها صواريخهم التي أكدّت ثقافتهم العريقة في تهديم بنيان الثقافة الأصيلة.
لكن، هيهات أن يحققوا ما أرادوا، لقد أخطأوا في قياسهم، ففرق بين حالهم الذي وصفهم فيه قرآن ربنا بمثل حامل الأسفار، وبين حال أبناء أمتنا الذين اختلطت دماؤهم مع تلك المداد، وتزاوجت أرواحهم مع تلك المعاني السامية، فالكلمة في قاموسنا من الكلم، وهو الجرح، لأنها تؤثر في الروح كما يؤثر الجرح في الجسد.
لذا وإن احترقت مئات الآلاف من الكتب، لكن النتيجة كانت تعميق معانيها وقيمها في قلوب أبناء مجتمع المقاومة والكرامة.
تلك ثقافتهم إحراق الكتاب، وتدمير مراكز العلم والمعرفة، أما ثقافتنا فقد تجلت بتصدي المقاومين وثباتهم، وبصمود مجتمع المقاومة بأدبياته العريقة التي استلهمها من تلك البساتين، فأنتجت تلك المواقف الصامدة، والأدبيات الآبية التي استحق أصحابها المتخرجون من مدارس ومنابر ثقافتنا الأصيلة أن يُمنحوا أعلى الشهادات وأرقاها.
وهي تفسر ذلك الحب والعشق للكتاب، والذي تجلّى في أيار الانتصار والتحرير الذي سبق في معرض المعارف للكتاب العربي والدولي والذي أقامته جمعية المعارف الإسلامية الثقافية في مجمع سيد الشهداء في الضاحية الأبية، والذي فاق توقع الجميع سواء في عدد الزائرين أو حجم شراء الكتب، رغم الوضع الاقتصادي الصعب، أو الاهتمام الواسع بالأنشطة الثقافية التي أقيمت مشاركة المعرض في عرس الثقافة.
من منطلق ذلك وإصراراً منها على إعطاء الموضوع الثقافي أهمية كبيرة في هذه البلد المتخبط بالسياسة ورغم كل التحدي من أعداء المعرفة، تعلن جمعية المعارف الإسلامية الثقافية عن عزمها على إقامة معرض المعارف الثاني للكتاب العربي والدولي بمشاركة أوسع وذلك في وقته المعهود وفي نفس المكان في مجمع سيد الشهداء عليه السلام في ضاحية الإباء والذي سيبقى منارةً ومنبراً للثقافة الأصيلة الهادفة.مراعين في هذا المعرض وضع أهلنا الاقتصادي ووضع الدور المدمّرة التي شاركت المقاومة في معركة المنعة والصمود.
آملين أن يقع مشروع معرضنا الثقافي في إطار تعزيز المعرفة الواعية في هذا الوطن العزيز متكاملاً مع سائر المعارض الثقافية، عساها تساهم في عمارة هذا الوطن الذي عبثت فيه أيادي الجهل والظلام، عسى هذه المعارض الثقافية أن تكون منارات تضيء وطن الحرف والقلم والكتاب.
والحمد لله رب العالمين