سر الرسالة

سر الرسالة

كلمة لسماحة الشيخ أكرم بركات.
المناسبة: رعاية حفل جائزة سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي لحفظة القرآن الكريم الجامعيين.
عنوان الكلمة: سر الرسالة.
المكان: كلية الحقوق في مجمع الحدث الجامعي.
الزمان: 13/5/2010.

من منطلق أنا موجود أفكّر تأمّلت في هذا الكون الرحب فوجدتُ كلَّ ما وقعتْ عليه حواسي قابلاً للوجودِ والعدم مستوي النسبةِ إليهما، وما كان كذلك فهو في وجودِهِ بحاجةٍ إلى علّةٍ تخرجُهُ منْ نسبةِ الاستواءِ، فكّرتُ ما هي العلّةُ التي أخرجتِ الكونَ منَ العدمِ إلى الوجودِ، وَحَذِرْتُ أنْ تكونَ العلّةُ مثلَ سائرِ الكونِ تستوي نسبَتُها إليهما، لأني سأعاود السؤالَ: مَنْ أخرجَها إلى الوجود؟

من هنا تولّدتْ في نفسي قناعةٌ واضحةٌ أن لهذا الكونِ علّةً لم تكن معدومة، بل وجودُها ضروريٌ لازمٌ لا ينفكّ عنها، فهي لا تحتاج إلى أي وجود آخر فهي علّةٌ غنيّةٌ عن كلّ شيء.

وبما أنّ هذِهِ العلّةُ هي المُوْجِدَةُ لهذا الكونِ وما فيه، فلا بُدّ أنْ يكونَ فيها كلُّ كمالاتِهِ؛ لأنَّ فاقدَ الشيءِ لا يُعطيهِ، فإذا كنتُ فاقداً للمالِ كيفَ أعطيكَ مالاً !! وإذا كنتُ فاقداً للعلمِ كيف أعطيكَ علماً !! وفي الكونِ حياةٌ وعلمٌ وقدرةٌ.

فالعلةُ الموْجِدَةُ حيّةٌ عالمةٌ قادرةٌ كما هي غنيّةٌ وخالقةٌ ومعطاءةٌ، وهي -أيضاً- حكيمةٌ؛ لأنّ الحكمةَ أن يوضع الشيء في موضعِهِ المناسِبِ، ومَن لا يضعُهُ كذلك فلسببٍ هو
إما جهلٌ وتلك العلّة عالمة
إما عجز وتلك العلّة قادرة
إما بخل وتلك العلّة كريمة معطاءة

مِنْ منطلَقِ كونِ الذي خَلَقَني وخَلَقَ الكونَ حكيماً تساءلتُ:

لماذا خَلَقَني؟
مِنَ المؤكَّدِ أنّهُ لَمْ يخلُقْنِي لحاجةٍ منهُ إليّ لأنّهُ غنيٌ
إذَنْ خَلَقَني لأجلي أنا
خَلَقَني لأجلِ أنْ أتكامَلَ في الحياةِ وأنْ أسْعَدَ فيها


وهنا علمتُ أن سعادتي وتكاملي يتحققان من خلال سيرٍ في طريق الكمال الذي هو طريق الجسد والروح، الفردِ والمجتمع، الحياةِ كلِّ الحياة.

تأمّلت في نفسي: تُرى هل أستطيع بحواسي وعقلي أن أتعرّف على تلك الطريق؟

فوجدت الجواب واضحاً: كلا، لا أستطيع، إذن كيف خلقني الحكيم لأسير في طريق لا أستطيع بنفسي معرفتها لأصل إلى غاية وجودي!!

عندها علمت أن الحكيم لا بدّ أن يتصل بي ليعرِّفني على الطريق وإن لم أكن أهلاً لهذا الاتصال لا بد أن يتصل بإنسان له أهليته، لكي يعرفه عليها، وهو يعرِّفها للآخرين، من هنا عرفت لماذا الرسالة والرسول.

قرأت في التاريخ عن كثير ممن ادّعوا الرسولية، ولكن كيف أؤمن بهم اليوم ليصدقهم عقلي، ومعجزاتهم حكايات لم أرَها لأصدّقها.

وهنا انبرى لي من بين ذلك كلّه دعوى رسالة تتميّز عن كل الرسالات لأنها تقدّم نفسها معجزة خالدة تصلح للإعجاز في كل عصر من خلال بلاغةٍ عجيبة مع أن صاحبها لم يقرأ ويكتب في كل حياته وحقائقَ علميةٍ تتحدث عمّا اهتدى إليه العلمُ بعد مئات من السنين من امتداد الجبال في الأرض وانتقاص الهواء في السماء، ودور الرياح بينهما ﴿والجبالَ أوتادا﴾ ﴿كأنَّما يَصَّعَّدُ في السماء ﴿وأرسلنا الرياحَ لَوَاقِحَ إلى غير ذلك.

هنا اطمأنت نفسي بمعرفة الطريق إلى كمالي وسعادتي من خلال رسالة أرسلها الحكيم إليّ وإلى كلّ إنسان لتكون خارطة الوصول إلى ذلك الكمال فاستحقت هذه الرسالة أن تكون مقدَّساً نرفعه على رؤوسنا وتتصفّحه عيوننا وتكرّر كلماته ألسنتنا وتحفظه قلوبنا وتهتدي به عقولنا لتحقيق هدف الإنسانية وغاية الوجود.

إنّه سرّ خلود القرآن وسرّ ضمانة حفظه فبدون خلوده وضمانة حفظه لا ينقطع اتصال الوحي التشريعي ولا تختم النبوة والرسالات، لذا أخبرنا الله تعالى مُطَمْئناً بشريته ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون.

إإنّها تأكيدات متتالية بأن الله حافظ لقرآنه لكنه - على قاعدة السير الاختياري للإنسان المتلائم مع توحيد الله الأفعالي والتأثيري في كل شيء - ليس حفظاً تكوينياً يشلّ يد التحريف عنه، ويطفئ جهاز القدرة عمن يحاول تحريفه، بل هو حفظ ارتكز على أمرين:
الأول: صياغته صياغة غيرَ زجاجية في عرض الحقّ بل هي ليّنة باهرة في حفظه في العمق دون أن تصل إلى حدّ التصادم مع السلطان على قاعدة إمّا قاتل وإمّا مقتول.
الثاني: حفظ المؤمنين له الذي أراده الله تعالى أن يكون حفظاً للقالب في دقته وهذا ما عبّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّ: "من أعطاه الله حِفْظَ كتابهِ فظنَّ أنّ أحداً أُعطي أفضلَ مِمّا أُعطيَ فقد غَمَطَ أفضلَ النعمةِ".

لكن آية الحفظ أشارت إلى نوع أعلى مقاماً من حفظ القالب فقد سمَّى القرآن "بالذكر" والذكر لا يكون بملأ وعاء الذهن بالكلمات والآيات والسور فقط؛ لأن هذا يدخل في إطار العلم النظري الذي يتصف بالمحدودية في التأثير على سلوك الإنسان فكم من عالم ملأ ذهنه بأرقى أنواع العلوم لكنه لم يستفد في سلوكه العقائدي والمسلكي من أيّ منها بل كان حاله حال الحاسوب في حمله للمعلومات.

الذكر يختلف عمّا سبق في كونه معرفةً يقِظة.

معرفةً متأهّبةً للفعالية معرفةً - على حدّ تعبير الإمام الخميني (قدس سره) كتبها قلم العقل على لوح القلب.

من هنا يكون الذكر منطلقاً لتغيير الفرد والمجتمع ومن هنا كان الذكر هدىً، ﴿ذلك الكتاب هدى، هدى إلى التعلّم والمعرفة التي من خلالها يكون الإنسان خليفة الله في الأرض يعمرها بالكلمات ﴿ويعلّمهم وهدى إلى تزكية النفس لتسير في مدارج السعادة من نقاوة ذاتية تتلاءم مع الطريق النقية إلى الكمال المطلق ﴿يزكّيهم وهدى في حركة المجتمع الإنساني على قاعدة الحكمة التي تحصِّنه من غزو الشرير وترقّيه في سماء الكمال ﴿ويعلّمهم الكتاب والحكمة وحتى يحقق القرآن هدف الهداية أرشد إلى الأسوة السائرة في طريق الهدى المصاحبة له فقال مرشداً ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ووصّى الأسوة بضرورة استمرار التأسي بالكمَّل بعده فقال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما عن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً".
من هنا تقدّمت الأمة حينما سلكت هدى القرآن وتراجعت حينما تركت ذلك الهدى وأصبحت أمّة باعها الكبار وضاقت صدور عقلائها حينما شعروا بانفصام في شخصية الأمة بين مادة المضمون والمعرفة التي تقتضي أن تكون أفضل الأمم، وبين عدم تفعيلها الذي سلك بها سلوك القهقري، تراجعت الأمة لأنها حفظت علماً ولم تحفظ ذكراً.
هذا جواب سؤال قديم لماذا تقدّم الغرب وتأخر المسلمون؟

وهو جواب أدركته عقول أعداء الإسلام حينما علمت أن لدى الأمة الإسلامية - مع تراجعها- قابلية التحرّر والتطوّر طالما أنّ القالب عندهم محفوظٌ وإن لم يفعِّل ذكراً. لذا عملوا على صعيدين:
الأول: تحريف المضمون بأسماء جاذبة، حرية، ديمقراطية، انفتاح إلى غير ذلك.
الثاني: إسقاط القالب.

قال أحد زعماء بريطانيا السابقين، لا نستطيع أن نسيطر على المسلمين إلاّ حينما ننزع الحجاب عن المرأة ونضعه على القرآن.

إنه الإمام الخميني (قدس سره) الذي أوضح في ثورته أنها ثورة إلهية قام بها إنسان صنعه كتاب الله وسار على هداه متأسياً بالخاتم وأوصيائه فأسقط الطاغوت وأقام حكومة الله وكانت النتيجةُ التي نلامسها اليوم إذ نرى دولة "الذكر" تتقدم في قيمها الإنسانية وأبحاثها العلمية ونتائجها الطبية وصناعتها التكنولوجيا والعسكرية حتى أضحت صواريخها تعرف طرق السماء وتعبر جَدد الأرض وتتراقص على أمواج البحار ترهب بذلك أعداء الله والأمة. وصدقت توقعاتهم حينما انتقل وهجُ الذكر إلى لبنان فنفض عنه غبار القمم الذي حاول الآخرون أن لا يلامس الريح لأنه لم يؤاخ جسد الروح النابضة لكن ريح الذكر المشرقية كانت قوية أزاحت السَّدَّة عن الفوهة فكانت المقاومة الإسلامية التي واكبت الذكر وواكبته فتكاملت به بالعلم والتزكية والحكمة.

فكما تميّز المقاومون بتزكية نفوسهم تميّزوا علماً ومعرفة ولعل الشاهد على ذلك شهداؤها العلماء من السيد عباس الموسوي إلى الشيخ راغب حرب إلى الشيخ أحمد يحيى إلى غيرهم من العلماء الشهداء والجامعيين الذين يساوون اليوم شهداء غزوة بدار فلم يكن علمهم مادة في حاسوب بل كان ذكراً يحركهم في أفضل سبيل إلى الله تعالى.

من هنا لأجل التأكيد على تفعيل دور القرآن في مجتمعنا كذكر تفعَّل في المقاومة المفتخرة بقائدها الشهيد السيد عباس وشهدائها الجامعيين مفخرةِ الأمة.

ولأجل إحياء حفظ القرآن ذكراً بين الجامعيين في وطن المقاومة ليكون سداً أمام عواصف الحرب الناعمة التي تهدف تغييراً في جيل المستقبل بحرفه من مسار الله من أبوبٍ شتى ووسائل لاهية.

لاهية لعيون الشباب عن النظر إلى القرآن بالنظر إلى أفلام جارفة نحو الهاوية.

لاهية لآذان الشباب عن استماع صوت القرآن باستماع صخب الضياع.

لاهية لأنوف الشباب عن شم عطر القرآن بشم ما يخدِّر العقل والروح. لأجل جيل جامعي متعلّم مزكٍّ حكيم يقتدي بالشهداء ويسير على درب الأوصياء كانت جائزة الشهيد السيد عباس الموسوي لحفظة القرآن الكريم الجامعيين نفحةً من نفحات سيد المقاومة لمجتمع أشرف الناس وأطهر الناس وأعزّ الناس.

والحمد لله ربّ العالمين