دموع بلا ملح
تقدمت في معرفة العالم خطوةً لم أميِّز فيها بين مُلكه وملكوته وجبروته، ظننت وقتها العالم حاضراً كله أمامي، لكن لم يحدث في داخلي شيء، فتوغلت فيه خطوةً أخرى، فتبين مشهدي الأول محاطاً بأستارٍ كبيرةٍ تخفي معالم عجبتُ من وسعِها المجهول، هنا حدث في نفسي ظمأ، ثم توغلتُ الخطوةَ الثالثةَ فضاقَ مشهدي وضاقَ، ووسع مشهدُ الأستار حتى كأني لم أعدْ أرَ شيئاً سوى الأستار، فأصبحت ظمآناً.
من هنا كانت بداية رحلتي الأخرى، رحلة الظمآن الباحث عن عينٍ يروي ماؤها غليلي الطامح، لعله يصل بنقاء تلك العين إلى عيني لتبصر ما وراء الأستار.
في رحلتي هذه علمتُ قصوري، فابتغيت الوسيلة مستعرضاً تاريخ أصحاب حبالِ الوصول والصراط، وجدتُ في بلدي القديم الكثير منهم، مثل شيث النبي، فهنا جبُّه، وهناك عدُّه، وهنالك قبره الكبير، سألت العارفين: هل له عين؟ لعلها تروي ظمأي وتنير عيني. قالوا: لا، ولكن إن أردتَ تلك العين، فزُرْ ناحيةَ فتاة جبيل الشمس، فهناك عينٌ لحبلٍ آخر، أخذ من شيثٍ حرفَه الأخير وديعةً أحاطها في اسمه بعامودَي الوصال نحو السماء، وقد فَنَيَا في سكرةِ المحوِ حتى من اللسان الذي تغنّى بنسبة العين إليه، فأنشد "عيناثا".
ليحكي الاسم قصة متجوّل في بلادي، فهناك حدُّه وهنا عينه، ولعله هو صاحب صخرة الكرامة تحت العين المستجيب ماؤها لأمير المؤمنين علي عليه السلام في "براثا" العراق.
شدّني صاحب الثاء وعينه، فقدمت إليها ملهوفاً أتطلع في عيون أبنائها، لعلي أرى أثرَ عين صاحب تلك الثاء في تلك العيون، وهنا كانت مفاجأتي إذ رأيت فيها عيوناً تختلف عن سائر العيون، فهي عيون تذرف دموعاً بلا ملح.
تساءلت عن السبب، فأتاني الجواب من ديوان شاعرنا الكبير السيد عبد المهدي فضل الله، وهو ديوان يحكي قصة عيون الأمة من تاريخٍ كان دمعها مالحاً ملحاً أثَّر في تراب الأرض وقرارها حيث:
غاضها ملح الدموع
ترتوي منه الربوع
وحقول الذل والأحزان
صارت الصحراء واحات هوان
كانت هذه مقاطع من قصيدة شاعرنا قبل العام 1982م، تحكي قصة الدموع المالحة وهو يتطلع إلى القبور:
لفتة صوب القبور
غاضها ملح الدموع
صوب أوكار النسور
إنها توشك بالأرض تتطير
غاضها ملح الدموع
في رحلة هذا الديوان المثيرة، نكتشف كيف أصبحت الدموع بلا ملح.
فبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران رفع شاعرنا عينيه من القبور ليتطلع إلى فجر الإمام الخميني، فأخذ يناديه:
يا سيفه المسلول كالفجر إشراقاً
من طبعه مجبول ذوداً وأخلاقاً
مظفّر مأمول إن سلّ أو لاقى
قد طاب أعراقاً
ورأى في الإمام الخميني مصباح الأمة الهادي، فأكمل قصيدته وهو يتطلع إلى كل الدُّنى:
لو أنها تمضي في ضوء مصباحه
إلى الهدى تفضي تختال في ساحه
منيعة العرض في ظل إصلاحه وهدي ألواحه
ومع انطلاقة المقاومة الإسلامية بدأ حديثه عن العين الأخرى، فهي العين الساهرة التي تأبى النوم على الضيم، فيقول:
حمم نحن إذا جدّ الخصام***حسبنا الإسلام... درع وحسام
نحن للحرب مناها والسلام***وعلى الضيم أبينا أن ننام
وفي تطلعه لشهداء المقاومة الكربلائيين في العام 1984م، ينظر شاعرنا قرار عين الشهيد فيخاطبه:
قرّ عيناً يا شهيد الغاضرية
شمخت بالأرض ساح النبطية
وكذا جبشيت معطاء سخية
تعشق الموت وتشتاق المنية
فهم أسد الشرى عند النزال
يا بلال.. يا بلال..
يا انتصار الجرح في ساح النضال
وبعد حرب تموز والانتصار، وقف شاعرنا في محراب شهداء عيناثا الأبرار، يبحر في جراحاتهم وعينه ليست على القبور، بل أصبحت من رعاة الشمس التي رآها هذه المرة تدور حول تلك الدماء الجمرية:
وتدور الشمس حول الجمر حمراء الإزار
شربت من دمك القاني لكي يصحو النهار
قطرة تنتج صبحاً.. وربيعاً.. وبذار.
أرته تلك الدماء الشمس، وأرته الشمس الأمل الممهد للأمل الكبير، والذي كان مصدر العيون النابعة التي بها راحت الأمة تغسل عنها عار الهزيمة لتخرج منها بتاريخ الانتصار، أرته الشمس السيد:
شامخ القامة معصوباً بمنديل مخضب
نسجته كفُّ زينب.. خضبته كف زينب
انفجرت منه العيون
كل عين منه تتفجر
وربيع يتبختر
وشموس النصر منه تتحدث
الآن، فهمت قصة عيون أبناء عيناثا ورفاقها، فهم شربوا من تلك العيون التي انفجرت من منديل زينب، لتكون عيون النصر، يذرف الشاربون منها دموع الفخر بالشهداء والفرحة بالنصر المؤزّر، لتنتج تلك الدموع عيوناً وعيوناً من تلك العيون نقياً لونها عذباً ماؤها يحكي قصة دموع مالحة عالجها جمرُ الشهادة وعرق الجهاد، فأصبحت دموعاً بلا ملح، ترفد عيون النصر لتسقي ربيع الأمة الجديد المزهوِّ بألوان الورود المسمَّدةِ بحشوات "ضدّ الدروع" وأخواته السابحات، المسقيّةِ مع ذلك الرافد بالدم القاني وعرق الجهاد.
وها نحن اليوم نحتفل بباقةٍ من تلك الورود، مسوَّرةٍ بديوان شاعرنا العيناثي "دموع بلا ملح" المواكبِ لديوانه المقاومة "القنديل والغربة" في مشروع أدب المقاومة التي تستحق من أهل القلم والريشة والوتَرَ أن تنظم شعراً وتنثر قصة ورواية وتمثّل فيلماً، وتعرض مسرحاً، لتُحفرَ ثقافُتها في قلوب الأجيال الصاعدة، لتتعلم منها لغةَ الإباء والثبات والكرمة، لا سيّما أننا نعيش في بلاد المرابطة، وفي بيئة يحاول فيها الاستكبار العالمي أن يُحرف شبَّاننا وشاباتِنا عن القيم والمبادئ، وأن يُميِّع شخصياتِهم ليتحولوا أدواتٍ رخيصةً يحركها أعداء الأمة كما شاؤوا.
هذا ما أرادوه في مشروعهم الشرق الأوسطي الجديد الذي خططوا لولادته عقيب حرب تموز، لكنَّ ثقافة المقاومة أسقطته قبل ولادته، وها هم اليوم يعاودون قصة الاستيلاد من جديد لتستمر الحرب بين ثقافتين: ثقافِتِهم الهادفةِ إلى تحويل المنطقة مصنعاً يسودون فيه عمَّاله من أهلها بصفة العبيد، وثقافةِ المقاومة والمنعة والتشبث بكرامة الأرض والعرض المتطلّعة إلى الدُّنى تُملأ قسطاً وعدلاً.
الثقافة الأولى إعلامها واسع في انتشاره، حبرها غزير في نتاجه، أما ثقافة المقاومة فهي وإن قلّت وسائلُها وصغر كمُّها لكنها ذات بركة عظيمة
فهم مهما قالوا وقالوا.. وكتبوا وكتبوا.. وغنوا وغنوا.. لكنَّ قصيدة واحدة انطلقت من تراب عاملة كانت أعظم من كل ما قالوا وكتبوا ورسموا وغنوا، إنها القصيدة التي تدعو أصحاب القلم والريشة والوتر إلى مواكبتها ليتسع ربيع الأمة الجديد، إنها قصيدة بيت العنكبوت التي أنشدها الشامخُ القمة المعصوب بمنديل مخضب، نسجته كف زينب... خضبته كف زينب...
انفجرت منه العيون
كل عين منه تتفجر
وربيع يتبختر
وشموس النصر منه تتحدر.
المناسبة: حفل توقيع ديوان الشاعر السيد عبد المهدي فضل الله.
المكان: بنت جبيل.
الزمان: 18/8/2008م.