الأطروحة الضامنة
الحمد لله الذي علم بالقلم، [علم الإنسان ما لم يعلم] والصلاة والسلام على الرسول الأكرم محمد وآله الميامين. حينما تنجح الأطروحة في تحقيق ثورة، ثم تشكيل دولةٍ تمتد في نجاحها سنوات طوالاً قد يتجه المناصرون إلى سد ثغرات ظهرت وترميم أمور حدثت في تفاصيل تلك الأطروحة لا سيما على مستوى التطبيق. وقد يتجه الأعداء إلى أصل الأطروحة ومبانيها لعلهم بذلك يستطيعون هدم البيان الذي شيد عليها ليؤرق المناوئين.
أما أن يبحث المناصرون بعد سنوات طوال على عمر ذلك البنيان عن المباني التي يرتكز عليها فقد يعتبره البعض عوداً إلى الوراء، وبحثاً في أوراق تاريخ مضى قد يُفتن الحاضرين أو يكون فيه للوقت مضيعة.
لكن حينما يكون البحث في تلك الأسس والمباني يفيد محاولة لضمان استمرار الأطروحة بعد ترسيخها على مدى الأجيال، كما يفيد محاولة توسيع رقعة الإيمان بها في ساحات متنوعة، فإن هذا البحث قد يكون في مستوى يعلو على سد الظاهر وترميم الحادث. وهذا هو ما عنت به هذه الدراسة حول المباني الكلامية لولاية الفقيه.
وهي الأطروحة التي قامت عليها الثورة ثم الدولة الإسلامية في إيران، والتي تشكل المفصل الرئيس في قضايا الحكم والسلطة في ذلك البلد من الدستور إلى التفريعات القانونية، بل لم يقتصر أثر الأطروحة على إيران، فقد امتدت بركاتها إلى لبنان لتكون أساساً لقيام المقاومة الإسلامية التي حققت النصر العزيز للوطن والأمة.
وإذا استثنينا أروقة الحوزة العلمية وتراثها فإنه هذه الأطروحة كانت في عتمة المجهولية عند الكثير بل أكثر مثقفي الشيعة فضلاً عن سائر المسلمين. نعم، مع بداية الثورة الإسلامية في إيران انطلقت البحوث والدراسات التي ركزت في أول الأمر على التوضيح وبيان أدلتها، ثم تطورت لينصب الحث عن مكانتها ومنزلتها في أصول الفكر الإسلامي، لا سيما الشيعي الإمامي منه.
واللافت في حركة التطور هذه هو ما قدمه العلامة الشيخ جواد آملي أحد الأساتذة البارزين في حوزة قم المشرفة: إذا اعتبر أن الإمام الخميني قدس سره استفاد في ثورته من التدرج الذي حصل سابقاً في علاقة الفقيه بالأمة، والتي باتدأت بعلامة المحدث بالمستمع، ثم تطورت إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين، إلى أن بدت تتضح معالم ولاية الفقيه في الأبحاث العلمية، إلا أنه رأى أن الإمام الخميني قام بإنجاز عظيم من خلاله ظهرت النتائج وقامت الثورة، وذلك أن ولاية الفقيه كانت مدفونة في علم الفقه بعد أن أُخرجت من علم الكلام، وهذا ما منعها من النمو الكافي الذي يجعلها " أصلها ثابت وفرعها في السماء" وأكد الآملي أن ما قام به الإمام من إنجاز عظيم يتمثل في أنه أخرج بحث ولاية الفقيه المظلومة من دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، ثم أخذ يتوسع به بالبراهين العقلية والكلامية وقرنه بالبحوث الفقهية، فظهرت النتائج.
وقد احتل كلام الآملي هذا موقعاً حيوياً في النقاش الفكري في إيران، وصلت بعض آثاره إلى لبنان. وقد فهم البعض من تبني الآملي كلامية ولاية الفقيه ونسبته ذلك إلى الإمام الخميني أن ذلك يعني تبني موقع عقائدي حساس لمسألة الولاية هذه وهو موقع أصول الدين، ومن الواضح أن هذا الكلام يحمل خطورة كبيرة إذ يؤدي إلى حمل سلاح التكفير، وهذا ما أدى إلى توالي الردود والتعقيبات في الكتب والمجلات الفكرية لتوضيح ما قصد، وتبيان ما طرح. إن ما تقدم كان السبب في الوغول إلى مضمار هذا البحث حول المباني الكلامية لولاية الفقيه، رغم حداثة البحث الذي لم تتبلور فكرته في دراسات سابقة، مما يؤدي إلى كون مهمة الباحث هي اصطياد المعاني أكثر من اقتباس الألفاظ، لذا لم تكن هذه الدراسة جمعاً لآراء ذكرت، أو ترتيباً لمطالب كتبت، بل كانت في خلفية مطالب علمية انتشرت في علوم عديدة، واستنطاقاً لكلمات أعلام توجهت نحو مقاصد أخرى، إضافة إلى التمعن وتحليل أطروحة الإمام الخميني الذي نسب إليه الآملي بناء الفكرة التي طرحها معتبراً أنها قاعدة فكرية للثورة الإسلامية.
ولإنجاز هذا البحث بالصورة اللائقة قمت بقراءة متأنية للعديد من الكتب الكلامية والفقهية، إضافة إلى كتب لها علاقة بهذا البحث، ونتيجة البحث وإن لم تكن مطابقة لما أراد العلامة الآملي أن يصل إليه إلا أنها كانت إضاءة على مشروع كبير حملته كلمات الإمام الخميني التي صاغت هذه الأطروحة، يهدف إلى إخراج ولاية الفقيه لا من علم الفقه إلى علم الكلام بل من النظرية التي قد تتحكم بها أنظار الناظرين إلى بديهية تترسخ في أذهان الأمة بما يؤدي إلى التوحد تحت مظلتها والاستمرار الزمني لها بواسطته قوة الدفعة للدين الذي تنطلق ولاية الفقيه.
كما أن من مميزات البحث في هذا الكتاب أنه يخرج ولاية الفقيه من دائرة التكفير ممن لم يتسلح بالعدة المطلوبة إلى دائرة التفكير الذي أراده الإمام الخميني أن يكون منطلقاً للإيمان بها".