
الإمام الصادق(ع) والجامعة العلمية
عاش الإمام الصادق(ع) على مدى سنوات من حياته الشريفة في فترة احتضار الدولة الأموية, وولادة الدولة العباسية وجود فسحة زمنية واسعة انشغل فيها الآخرون بأمور السلطة والحكم, مما أتاح للإمام الصادق(ع) تأسيس جامعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام الصادق(ع) والجامعة العلمية
عاش الإمام الصادق(ع) على مدى سنوات من حياته الشريفة في فترة احتضار الدولة الأموية, وولادة الدولة العباسية وجود فسحة زمنية واسعة انشغل فيها الآخرون بأمور السلطة والحكم, مما أتاح للإمام الصادق(ع) تأسيس جامعة علمية كبرى أظهر فيها علوم أهل البيت(ع) المستقاة من النبي الأكرم(ص).
وقد بلغ طلاب هذه الجامعة أربعة آلاف, فيهم كبار علماء الأمة, بل انتشر طلابه في أنحاء البلدان الإسلامية, حتى قال أحدهم : دخلت مسجد الكوفة فرأيت تسعماية شيخ –أي استاذ- كلّ منهم يقول :حدّثني جعفر بن محمد.
أهداف الجامعة العلمية
وقد عمل الإمام الصادق(ع) ليحقّق من خلال جامعته العلمية أهدافاً عديدة نذكر نها:
1-تأصيل الفكري الإسلامي
لقد ابتلى المجتمع الإسلامي على المستوى الفكري الديني ببلاءات عديدة كان من أبرزها منع التدوين في أوائل العصر الإسلامي, لاسيّما في زمن الفتوحات,فقد منع بعض الحكّام الأوائل كتابة السُنَّة النبوية, بل وقفوا أمام حرية انتشارها في البلدان المفتوحة حديثاً.
ومن الواضح للباحث أن ذلك كان في إطار التحكّم بوعي الأمة من خلال وضع اليد على عناوين القيم والقدوات التي تعاكس مشروعهم.
ونتاج هذا المشروع يبرز بوضوح في ثقافة أهل الشام في زمن معاوية ابن ابي سفيان ومن بعده, فجزء من هذا المجتمع آمن بعقيدة الجبر بحيث ينسب ظلم الحاكم لله تعالى, وقسم منهم آمن بعقيدة الإرجاء بحيث لا تضرُّ مع الإيمان معصية, وانتشرت بينهم ثقافة تشوّه من صورة النبي الأعظم(ص) وأهل بيته الأطهار(ع) الذين صرّح بعض الشاميين في أوائل الدولة العباسية أنهم كانوا يعتقدون أنهم (أي أهل البيت) هم معاوية وأهله.
وأحد الأسباب الأساسية في هذا الأمر هو انتشار الكذب عن رسول الله من قبل تجار العلم.
وقد أدّت سياسة منع التدوين إلى نتائج كارثية تجلّت بعدم ثقة المحققين من العلماء بالكثير من الأحاديث نتيجة الكذب والاعتماد على الذاكرة غير المضمونة, إلخ.....
وحينما رفع عمر بن عبد العزيز منع التدوين لاحقاً لم يؤثر كثيراً على هذه النتائج السلبية, وقد نقل عن ابي حنيفة قوله لم يثبت عندي من أحاديث رسول الله أكثر من 17 حديثاً.
وقد تأسس المذهب المعتزلي على يد واصل بن عطاء بناء على قناعته بأن الأحاديث الموجودة لا تجيب عن الأسئلة المعاصرة, فلجأ إلى العقل وأسَّس مذهبه.
في هذه الأجواء يأتي دور الإمام الصداق في تأصيل الفكر الإسلامي.
لا سيّما أنّه المعصوم صاحب العلم اللدني, والأمين على وثيقة السُنّة النبوية الواقعية التي كان يعبِّر عنها بقوله: :" وإن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا أملاها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسلم وخطها علي ( عليه السلام ) بيده ، وإن فيها لجميع ما يحتاج إليه حتى أرش الخدش " .
وقد نشر الإمام الصادق(ع) علوم السُنّة انتشاراً مفصَّلاً, حتى روى عنه تلميذ واحد هو أبان بن تغلب 30000 حديث.
وكان هذ هو أحد الأسباب لانتساب مذهب أهل البيت(ع) إلى الإمام جعفر فسمّي بالمذهب الجعفري.
2- تقريب المسافة بين المذاهب الإسلامية
لقد سعى الإمام الصادق(ع) جاهداً لمنع اتساع الفجوة, وللتقريب بين المذاهب الإسلامية, وبمعنى آخر عدم ابتعاد المذاهب الأخرى عن الإسلام المحمدي الأصيل المتمثِّل بمذهب أهل البيت(ع).
وفي هذا الإطار ربّى الإمام الصادق(ع) كبار علماء المذهب منهم أبو حنيفة النعمان الذي درس عند الإمام الصادق(ع) سنتين كان يقول عنهما "لولا السنتان لهلك النعمان" .
وكان يقول: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد" .
ومنهم مالك بن أنس الذي كان يقول: "والله ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد زهداً وفضلاً وعبادةً وورعاً, وكان يقول: ما رأت عين, ولا سمعت أذن, ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادةً وورعاً" .
وإنَّ كثيراً من أئمة المذاهب الأخرى كالشافعي وأحمد بن حنبل يرجع في تلمذته إلى الإمام الصادق(ع) عبر التلامذة المباشرين.
وكان الإمام الصادق في إطار التقريب يحاور هؤلاء في منهج التفكير الديني كحواره مع أبي حنيفة الذي قال فيه:
ويحك أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا ؟ قال : قتل النفس . قال : فإن الله عز وجل قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة ، ثم أيهما أعظم الصلاة أم الصوم ؟ قال : الصلاة . قال : فما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ؟
3- مقاومة التشويه
من الطبيعي أن يتحرك أعداء أهل البيت(ع) في تشويه صورهم, كما أن من المأسوف عليه أن يساعدهم بعض الجهلة في عملية التشويه هذه, وإن لم يلتفتوا إلى نتيجة فعلهم, وقد تصدّى الإمام الصادق(ع), كما فعل غيره من أئمة أهل البيت(ع) من خلال دفع الأباطيل الآتية من الخارج من جهة, ومن جهة أخرى دعوة الشيعة إلى الوسطية والاعتدال, وفي هذا الإطار نقرأ أحاديث أهل البيت(ع):
"إنّ خير شيعتي النمط الأوسط, إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي" .
" يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى : يرجع إليكم الغالي ، ويلحق بكم التالي" .
والسبب في تأكيدهم هذه الدعوة هو ظهور نمطين من الناس يتعاكسان في نظرتهم إلى أهل البيت(ع).
النمط الأول: يعتبرهم علماء كسائر الناس, وإن فضِّلوا على غيرهم, إلا أنهم ليسوا بأئمة معصومين, وهذا النمط منتشر في وسط المذاهب الأخرى الذين يحترمون أهل البيت(ع) على هذه القاعدة.
النمط الثاني:تجاوز الحدّ في نظرتهم لأهل البيت(ع)؛ وذلك بسبب ما رأوا من كراماتهم أو لأسباب أخرى. ومن هؤلاء من ادَّعى كونهم أنبياء, ومنهم من اعتبرهم أرباباً –والعياذ بالله- .
وقد واجه الإمام الصادق(ع) وسائر أئمة أهل البيت(ع) هذا النمط بشدّة, فعن الإمام الصادق(ع):" قوم يزعمون أني إمامهم، والله ما أنا لهم بإمام ، لعنهم الله ، كلما سترت لهم سترا هتكوه ( هتك الله سترهم ), ، أقول كذا وكذا ، فيقولون إنما عنى كذا وكذا ، أنا إمام من أطاعني " . وعنه(ع):"من قال بأنا أنبياء فعليه لعنة الله، ومن شك في ذلك فعليه لعنة الله "
وقد استمر الأئمة(ع) من بعد الإمام الصادق(ع) على هذا المنهج في محاربة الغُلاة, فعن الإمام الصادق(ع) :" أللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا...أللهم من زعم أنا أرباب, فنحن منه براء, ومن زعم أن إلينا الحق, وعلينا الرزق فنحن براء منه" .
وقد رسم الإمام الصادق(ع) معايير وشواخص لتميّز ما ينسب إليهم حتّى لا يقع الناس بشباك التضليل, فعن الإمام الصادق(ع):" لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسُنّة, أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدِّمة؛ فإنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي" .
وقد بيَّن أهل البيت(ع) الهدف المستر من وراء تشويه العقيدة من داخل المجتمع الشيعي.
فعن الإمام الرضا(ع):"...فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا" .
وأمر التشويه هذا ليس مجرد كلام وحديث حصل في التاريخ, بل هو حرب مستمرة إلى اليوم إذ ما زال أعداء الإسلام يجهدون في تشويه صورة الحقّ.
وهذا ما يحتاج إلى وعي من قبل المنتمين إلى مدرسة أهل البيت(ع) أن يكون كل منهم خفيراً من ظهور النشوز في المجتمع المنتسب إلى هذه المدرسة, وحاملاً لشعلة الوعي والتوعية فيه.