
أهل البصائر
في كربلاء صاح أحد قادة جيش عمر بن سعد بأصحابه: "أتدرون من تقاتلون، تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين"[1].
أهل البصائر
في كربلاء صاح أحد قادة جيش عمر بن سعد بأصحابه: "أتدرون من تقاتلون، تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوماً مستميتين"[1].
البصيرة
البصائر جمع بصيرة، وهي كلمة.
وردت في القرآن الكريم:
أ- في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[2].
ب- وقوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾[3].
أ- وردت أيضاً في الكثير من الأحاديث الشريفة وقد وردت في مقام توصيف كمال العقل، ففي الحديث النبويّ الشريف: "قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه فلا عقل له:
1- حسن المعرفة بالله عزّ وجل،
2- وحسن الطاعة له،
3- وحسن البصيرة على أمره"[4].
ب- ووردت في مقام دورها في الهداية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً"[5].
ج- ووردت في مقام بيان موقعها بين العم، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "ذهاب البصر خير من عمى البصيرة"[6] .
د- وتارة استعملت في الدعاء لله تعالى، ففي الدعاء الوارد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "اللهم إنّي أسالك...أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي"[7].
وورد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ورد أنّه كان يقول في قنوته: "...واجعل على البصيرة مدرجتي، وعلى الهداية محجّتي..."[8].
هـ- ووردت في بيان كونها غاية لبعض العلوم، ففي الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام): "تفقّهوا في دين الله؛ فإنّ الفقه مفتاح البصيرة..."[9].
و- ووردت مقام الحديث عن فضل ومقام من يتصفون بها، ففي حديث الإمام علي (عليه السلام) - في صفة من يحفظ الله بهم حججه وبيّناته: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين..."[10].
وفي حديث الإمام الصادق (عليه السلام): "كان عمّنا العباس بن علي(عليه السلام) نافذ البصيرة صلب الإيمان..."[11].
وفي زيارة العباس بن علي (عليه السلام) ورد: "وأشهد أنّك مضيت على بصيرة من أمرك"[12].
أهل البصائر
من لفظ البصيرة نشأ اصطلاح "أهل البصائر" الذي استعمله أمير المؤمنين (عليه السلام) في بياناته، ففي نهج البلاغة ورد أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خاطب معاوية بن أبي سفيان: "وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد"[13].
وفي بعض النصوص أنّ هذا المصطلح كان يستخدمه أيضاً بعض من عاصر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد خاطبه عبد الله وعبد الرحمن ابني بديل بن ورقاء قائلين: "حتى متى لا تقاتل القوم؟ فقال الإمام علي (عليه السلام) لهما: لا تعجلا. فقال عبد الله بن بديل: ما تنتظر بهم، ومعك أهل البصائر والقرآن..."[14].
وقد تقدّم وصف الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه بأنّهم أهل البصائر في خطاب عمر بن الحجاج.
معنى البصيرة
إنّ ما تقدّم يشكّل حافزاً قويّاً لتحديد معنى البصيرة وبالتالي البصائر، والبدء من الحديث عن معنى البصر الذي اشتُقّ منه لفظ البصيرة، فالبصر هو أهمّ حاسّة من حواسّ الإنسان ويليها السمع.
وما يشير إلى أهميّة البصر وتقدّمه على بقيّة الحواس هو ما دلّت عليه دراسة علميّة تفيد أن 75% مما يتعلّمه الإنسان يأتي من البصر، وأنّ 15% من السمع، و10% من بقية الحواس.
ولأجل كون هاتين الحاسّتين "البصر والسمع" تقعان على رأس الحواس تكرّر في القرآن الكريم وصف الله تعالى بـ "السميع البصير".
وهناك نطرح سؤالاً يتعلّق بالسمع أولاً، وبالبصر ثانياً.
أ- فهل ما يسمعه الإنسان هو عبارة عن الحقيقة الواقعيّة؟
والجواب تارةً نلاحظه من ناحية تحديد هويّة صاحب الصوت وتارةً أخرى من خلال معرفة معنى الكلمات التي نسمعها.
أمّا هويّة صاحب الصوت فقد يكون من الصعب تحديدها واقعاً على ضوء إمكانية تقليد الأصوات، إلاّ إذا استطعنا الاستفادة من التقنيّة المتعلّقة بما يطلق عليه: بصمة الصوت.
أمّا معرفة معنى الكلمات التي نسمعها، فهل ما نفهمه من معاني يعبّر عن المعاني الواقعيّة المرادة؟
إنّ الجواب يتضح من خلال معرفة الحقيقة الآتية:
أنا حينما أكوّن فهماً معيّناً من خلال الكلمات التي أسمعها من متكلّم يريد إفهامي مطلباً ما، فهنا يوجد أمران واضحان:
1- فهمي.
2- المعنى المراد الذي ظهر من خلال تلك الكلمات.
لكنّ هناك أمراً ثالثاً يتوسّط هذين الأمرين هو عبارة عن المحطّة الذهنيّة الوسيطة بين الفهم والمعنى المراد، وهذه المحطّة الوسيطة ليست قناة تكوينيّة معصومة بحيث تدخل فيها الأصوات ويكون ناتجها دائماً هو المعنى الحقيقيّ المراد، بل هي محطّة تتأثّر بعوامل عديدة يكون لها دور أساس في تكوين الفهم.
ألا نرى أن أحداً قد يتكلّم بمطلب معيّن ويخرج الحاضرون، وكلٌّ منهم يؤكّد أنّ مراد المتكلّم هو معنى يختلف عن المعنى الذي يؤكّده الآخر.
أذكر لكم حادثة طريفة حصلت معي في إحدى المستشفيات حينما كنت أزور مريضاً، وكان إلى جانبه مريض يجلس قربه زائران يتخاصمان في ملكيّة أرض، وحينما رأيَاني هلّلا باعتبار أنّي سأجيبهما عن ما يتخاصمان حوله، وفعلاً طرحا المسألة وكانت واضحة، وجوابها الشرعي واضح، وحينما أجبتهما بتعبير بيّن.
قال الأول للثاني: "سمعتَ".
وقال الثاني للأوّل أيضاً: "سمعتَ".
إنّ ما سمعه كلٌّ منهما هو شيء واحد، لكنّ فهم الأول اختلف عن فهم الثاني، لماذا؟
لأنّ هناك محطّة وسيطة بين المعنى المراد والفهم تأثّرت في الأول بعوامل معيّنة، بينما تأثّرت عند الثاني بعوامل أخرى.
إنّ بعض علماء النفس يطلقون على هذه المحطّة الوسيطة اسم "النظام الإدراكي"، وهو نظام يقوم بتفسير المسموع وتحليله، وباختلاف التفسير والتحليل ينشأ الاختلاف بين الناس في ما يفهمون.
من هنا ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حول علاقة الأخ بأخيه المؤمن: "كذّب سمعك ... عن أخيك"[15].
فإذا سمعتُ الأخ المؤمن يقول قولاً، ثم طالبتُه به، فنفى أن يكون قد قال ذلك، فهنا الإمام الكاظم (عليه السلام) يقول لي: كذّب سمعك ولا تكذّب أخاك، وهذا قد يكون مستغرباً عند البعض، إلاّ أنّ التأمّل فيما تقدّم يدفع الاستغراب، فإنّ ما فهمته ليس معلوماً أنّه عبارة عن ما قاله وأراده واقعاً، وإنّما هو فهمي الذي تكوّن عبر النظام الإدراكي الذي قد يتأثّر بعوامل عديدة، وعليه يمكن أن يكون فهمي ليس واقعياً، وعليه، فهو يحتمل الاشتباه، إذاً أنا أمام أمرين: فهمي الذي يحتمل الاشتباه، وقول الأخ المؤمن، الإمام الكاظم(عليه السلام) يقول لي: قدّم ما يقول المؤمن على فهمك.
وهكذا الحال فيما نبصره، فإنّا حينما يقع بصري على شيء ما فهناك ثلاثة أمور:
1- المُبصَر الخارجي الواقعي.
2- التصوّر الذي حصل في ذهني.
3- والأمر الثالث هو الذي يتوسّط هذين الأمرين هو النظام الإدراكي الذي يقوم بتفسير الماهيّة القادمة إلى ذهني. وباعتبار كون هذا النظام يتأثّر بعوامل عديدة تختلف نتائج التصوّرات بسببه، وعليه فإنّنا نستطيع تفسير تكملة الحديث السابق من دون استغراب، إذ تكملته هي: "كذّب سمعك وبصرك عن أخيك"[16].
وحول هذا الأمر أنقل قصّة لطيفة أيضاً حصلت معي في البرازيل، فإنّ عندهم شراباً شعبياً يدعى "غورنا"، وهو يُصنع من نبات لا إشكاليّة في حلّيّته، لكن مشكلته أنّه يشبه الـ"بيره" بشكل كبير سواء في لونه أو رغوته، حتى أنّي حينما رأيت أول وصولي إلى البرازيل فتاة صغيرة في مطار "ساو باولو" تشرب منه ظننت أنّها تشرب الـ"بيره"، وذات يوم كنت أقوم بعقد زواج فتاة على شاب وضعوا الـ "غورنا" على الطاولات، لكن بعد قليل أتوا بالكاميرا يريدون التصوير، فاعترضتُ عليهم قائلاً: إمّا أن لا تصوّروا، أو تزيلوا أكواب الـ"غورنا" من المجلس، هم تعجّبوا، لكنّي وقتها كنت أستحضر قصّة ذلك الشاب الذي وجد في برّاد صديقه زجاجات مليئة بالمياه الغازية perrier فاعتقد أنّ صاحبه يشرب الـ"بيره"، فأخذ يشهّر به بين المؤمنين، لجهله بتلك المياه الغازيّة، وطبقاً لضعف تديّنه ووعيه أيضاً. فلو أنّ هذا الشابّ كان متديّناً واعياً لسأل صاحبه عن ماهيّة تلك الزجاجات. ولكن لو افترضنا أنّه سكت ولم يسأله، ثمّ سأله بعد فترة، فأنكر صاحبه وجود زجاجات "بيره" في برّاده دون تبرير لذلك بأنّها مياه غازيّة، لكان الموقف للشاب المؤمن أن يمتثل قول الإمام الكاظم (عليه السلام): "كذّب سمعك وبصرك عن أخيك"[17].
البصيرة تتعلّق بالقضايا
استكمالاً لمعرفة معنى البصيرة لا بدّ من التفرقة بينها وبين البصر، فالبصر هي حاسّة يعرف من خلالها الإنسان ما تتعلّق به العين، وما تتعلّق به العين هو شيء مادّي محدّد، يأتي -بصورته كما يعبّر المناطقة-، أو -بماهيّته كما يعبّر بعض الفلاسفة- إلى النفس الإنسانيّة.
إنّ الانتقال الذي حصل هو انتقال صورة محدّدة تم تصغيرها مع المحافظة على كامل الأبعاد لتدخل في ذاكرة الإنسان (Memory) بالحجم المناسب بداية، ثمّ لتُفلتر بعد ذلك من المادّة التي لا تتناسب مع النفس، فتدخل إلى النفس مناسبة في تجرّدها معها. هذا كلّه في أمر مادّي يأتي إلى الذهن صورة، وهو من عمل البصر. إنّ ما مضى يقع في دائرة ما يسمّيه علم المنطق بالتصوّر.
لكنّ هناك أمراً آخر يحصل في النفس الإنسانيّة هو عبارة عن قضيّة فيها -بتعبير المناطقة- موضوع ومحمول ونسبة بينهما، مثل: "هذه بيره"، فـ "هذه" إشارة إلى ما وقع عليه بصره، وهو الموضوع، و"بيره" هي ما أعلم حقيقته من خلال قاموسي العلمي المختزن في نفسي، وهي المحمول، إلاّ أنّ هناك أمراً ثالثاً هو أنّي نسبت "البيره" إلى "هذه"، وهو ما يسمى "النسبة"، وإذا دقّقنا في هذه النسبة نلاحظ أنّ اعتقادي بها نشأ من عوامل فيها تحليل، ولم تنشأ فقط من البصر أو المعلومات المحقّقة لديّ، فأنا حكمت عليها بأنّها "بيره" من خلال لون الزجاجة وشكلها، أو من خلال لون السائل ورغوته...أو ما شاكل، فقمت بتحليل داخلي أجريت فيها مطابقة بين صفات الـ"بيره" وبين "هذه" فحكمت عليها بأنّها "بيره".
لكن من الواضح أنّ هذا الحكم حتى يكون صحيحاً لا بدّ من مروره بمسار دقيق محكم، وإلاّ سيكون خاطئاً.
وهذا المسار الدقيق المحكم يعتمد على بنود أساسيّة:
الأول: التأكّد من ما أواجهه، فإن كان محسوساً لا بدّ من سلامة الحواس، وتركيزه عليه دون غفلة.
الثاني: صحة المعلومات التي أختزنها في قاموسي النفسيّ، والاستعانة بمعلومات أخرى عند الحاجة إليها.
الثالث: استحضار الاحتمالات الأخرى المطلوبة في ما أواجهه.
الرابع: التحليل الصحيح لحسم النتيجة على ضوء ملاحظة ما واجهته والمعلومات والاحتمالات المتعلّقة به.
- أمّا البند الأول فأمره واضح، فمن كان عنده ضعف شديد في البصر أو عمى في الألوان، فإنّه لا يصحّ أن يعتمد على حواسه في قضية ترتبط بها.
- أمّا صحة المعلومات لا سيّما التي يختزنها، فهي مرتبطة -بشكل عام- بالعمليّة التربويّة التعليميّة الأولى في حياة الإنسان، والتي يؤكّد الإسلام كما العلم الحديث على ضرورة أن لا تكون المعلومات الأوليّة لدى الطفل ناشئة من التلقين، بل لا بدّ أن تكون نتاج التجربة الشخصيّة، والمعاينات الخاصّة، لذا دعا الإسلام، وكذا علم التربية إلى ترك الطفل في سنينه الأولى دون تعليم تلقيني، ليتعرّف على معنى الحرارة حينما يقترب من النار، وليتعلّم علاقة العلّة بالمعلول حينما يكبس زرّ الكهرباء فينير المصباح، ثمّ يكسبه مرّة أخرى فينطفئ، ثمّ يكبسه فينير، ثم يكبسه فيَنطفئ.
ثمّ تأتي المرحلة التلقينيّة التي لا بدّ للوالدين والقيّمين على أمور المجتمع أن يواكبوا نقاوتها حتى لا تتلوّث بمعلومات تنتج أفكاراً خاطئة. وهذا ما أكّدته بعض الأحاديث الداعية إلى الالتفات إلى التكوين الفكري للأحداث أي الناشئة كالحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليه المرجئة"[18].
ثم تأتي مرحلة التحليل الذاتي التي يعتمد فيها الإنسان على نفسه في المعارف، والتي لا بدّ فيها أن لا يخطئ في تركيب المقدّمات الصحيحة كي تكون النتيجة كذلك.
- من خلال ما تقدّم أخيراً تعرف أهميّة الأمرين الثالث والرابع في المسار الصحيح لحكم الإنسان، فإنّ الحكم الصحيح لا بدّ أن يقوم على نفي الاحتمالات الأخرى التي تؤدّي إلى خلاف ذلك الحكم وتحليلها بهدف الوصول إلى النتيجة الصحيحة، فلو أنّ ذلك الشاب في المثال الذي طرحته استحضر احتمالات أخرى حول ما شاهده في برّاد أخيه وحلّلها بالشكل الصحيح، فإنّه لن يصل إلى قناعة بكون ما في برّاد أخيه هو "بيره".
إنّ السير على ضوء تلك البنود الأربعة يوصل الإنسان إلى قناعة موضوعيّة بالقضيّة، إلى حدّ تصبح القضيّة كأنّها أمرٌ مرئيٌّ، ويصبح مولّد تلك القناعة كأنّه عين باصرة لها، لذا كما سمِّيت رؤية العين بصراً، فقد سمّيت القناعة المتولِّدة من ذلك المسار بالبصيرة.
فالبصيرة هي عقيدة القلب التي تنطلق من مسار صحيح تُري صاحبها القضيّة على واقعها كما هي عليه.
من هنا قارب الطريحي تعريف البصيرة بأنّها "الدلالة التي يستبصر بها الشيء على ما هو به"[19].
وعرّفها بعضهم بأنّها "اسم لما اعتقدته في القلب من الدين وتحقيق الأمر"[20].
وعرّفها البعض بأنّها "عقيدة القلب"[21] والبعض الآخر بأنّها: "رؤية القلب"[22].
ميادين البصيرة
للبصيرة ميادين وساحات نقتصر الكلام هنا على ثلاث منها هي:
1- البصيرة على النفس
إنّ من أوضح معارف الإنسان معرفته بنفسه، فالإنسان يعرف نفسه بالعلم الحضوري، أي ليس من خلال استحضار صورة الشيء إلى النفس كما أَستحضِرُ صورة القلم والكتاب والطاولة، بل إنّ نفسي حاضرة بنفسها لا بصورتها عند نفسي، وكذا يعلم الإنسان بعدّة أمور تتعلّق بنفسه من خلال حضورها عند نفسه لا بحضور صورها، فالواحد منا يعرف نفسه بأنّه جائع أو عطشان، لا من خلال حضور صورة الجوع والعطش لدى نفسه، بل من خلال حضور نفس الجوع والعطش لديها، من هنا نطلّ على بعض الأحكام الراجعة إلى نفس الإنسان، فإنّ الإنسان يعرف صفات نفسه الواقعيّة، وإن أظهر خلافها أمام الناس، فهو يعرف ضعفها وإن أظهر القوة، ويعرف بخلها وإن أظهر الكرم، ويعرف جبنها وإن أظهر الشجاعة، فهو قد يظهر ما ليس واقعاً في نفسه، ويلقي لذلك المعاذير، لكنّه في الواقع وكما قال الله تعالى: " بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "[23].
2- البصيرة في الدين
بما أنّ الدين يشكّل الطريق القويم الذي يوصل الإنسان إلى كماله الذي يمثّل غاية وجوده، وبما أنّ الدين لم يجعله الله تعالى نصاً واحداً لا يمكن أن تحرّف مفاهيمه، فإنّ معرفة الدين الحقّ دون تحريف تحتاج إلى آلية صحيحة، ومسار متقن لتتحقّق من خلال ذلك البصيرة فيه، وهذا المسار وإن مرّت بنوده العامّة سابقاً، إلاّ أن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أكّدوا على أنّ ذلك يحتاج إلى تسديد إلهيّ للإنسان، فأكّدوا على الدعاء "اللهم إنّي أسألك أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني"[24].
ولعلّ هذا التأكيد بسبب المحاولات الحثيثة من إبليس ومن قد يساعده من شياطين الإنسان لتحريف صورة الدين عبر محاولة تأثيره في النظام الإدراكي الوسيط، فإنّ تأثير إبليس في الإنسان يقتصر على الإدراك، ومحاولة إراءة الصورة على غير واقعها. كإراءته ما انجذب إليه الناس من بيان القرآن الإعجازي في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه نوع من السحر. وقد عبّر القرآن الكريم عن دور إبليس هذا بقوله عزّ وجل: "وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ "[25]. فالمخلَصون هم الذي ثبتت عندهم الحقائق بحيث لا يستطيع إبليس أن يغيّرها، أمّا غيرهم، فهو يسعى جاهداً نحو تغييرها من خلال التأثير على النظام الإدراكي لديهم.
3- البصيرة الاجتماعيّة
إنّ وعي الأمور الاجتماعيّة على حقيقتها أي البصيرة فيها تحتاج إلى السير على ضوء البنود الأربعة في المسار السابق والتي هي:
1- التأكّد مما أواجهه.
2- صحة المعلومات.
3- استحضار الاحتمالات الأخرى.
4- التحليل الصحيح على ضوء ما تقدّم.
وهنا لا بدّ من ملاحظة أمر يتعلّق بالبند الثاني، وذلك أنّ من ضمن المعلومات التي لا بدّ من الاعتماد عليها، وعدم إغفالها هو ناتج البصيرة في الدين، فالبصيرة الاجتماعيّة تعتمد على البصيرة الدينيّة، إذ الأخيرة تُشكّل أساساً ومدماكاً في البصيرة الإجتماعية.
وتَكوُّن البصيرة الاجتماعيّة لا سيّما في نطاقها الأوّل في الأسرة والأصدقاء والأقرباء والجيران تحتاج -عادةً- إلى تدخّل الواعين من الأهل والمعلّمين وغيرهم لتوجيه الأبناء والتلامذة نحو الوعي الاجتماعي من خلال السير على ضوء البنود الأربعة السابقة.
أمّا في الدائرة الاجتماعية العامّة، فإنّ البصيرة لا يكفي فيها توجيه الأهل والمعلّمين والمربّين، بل تحتاج إلى توجيه الوليّ العام للأمّة الذي يشكّل ضامناً ضرورياً لتحصين بصيرتها لا سيّما مع الجهود الكبيرة التي تبذل من شياطين الإنس والجن كي يحرفوا القضايا عن حقيقتها.
وفي نهج البلاغة يوضح الإمام علي (عليه السلام) محاولات معاوية في تحريف الحقائق التي نجحت مع جيل كثير من الناس، في مقابل فتنة لم يستطيع معاوية أن يغيّر في نظامهم الإدراكي المحكم فاستحقوا أن يطلق عليهم الإمام علي (عليه السلام) مصطلح أهل البصائر، كما في خطابه المتقدّم لمعاوية بن أبي سفيان: "وأرديت جيلاً من الناس كثيراً، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد"[26].
نعم نجح معاوية في تحريف صورة الدين، والمسار الاجتماعي للكثير من الناس، حتى وصل الأمر بالناس أن يجتمع عشرات الآلاف منهم بهدف قتل سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كربلاء الذي اجتمع مع عشرات فقط امتازوا بمصطلح "أهل البصائر"، وبلغوا "الفتح" بتعبير الإمام الحسين (عليه السلام) ومن "ومن تخلّف لم عنّي لم يبلغ الفتح" والفتح مقابل الإغلاق هو بصيرة قلب مقابل عماه.
لكن ما حصل في كربلاء بتخطيط من الوليّ العامّ للأمّة "شاء الله أن يراني شهيداً وأن يراهنّ سبايا" استطاع أن يكون شاخصاً واضحاً في محاربة ذلك التشويه والإضلال وبالتالي على صورة الدين، وحصّن مسار الأمن من ذلك الانحراف الذي كاد أن يصل به إلى الهاوية التي لا رجوع عنها.
لقد استطاعت النهضة الحسينيّة أن تكون المناهضة الدائمة المستمرّة على مدى العصور لتشويه الدين ومسار الأمّة الاجتماعي في النظام الإدراكي العام لها، وذلك عبر العمل الدؤوب من أبنائه الأئمة المعصومين الذين أكّدوا:
1- كون الثقافة الحسينيّة هي عنوان أساسي في الصراع الذي يريد فيه أهل الباطل أن يشوّهوا ويحرّفوا صورة الحقّ.
2- مرجعيّة أولياء الأمر العلماء في تحصين بصيرة الأمّة سواء في عصر الحضور أو في عصر الغيبة، الذي تحدّث عنه الإمام الهادي (عليه السلام): "لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والدّالين عليه والذّابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل"[27].
والذي تحدّث عنه الإمام المهدي (عج) في الرواية المصحّحة: "أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله"[28].
وفي عصرنا شاهد عظيم على ذلك، ألا وهو الإمام الخميني (قده) الذي نقل الأمّة من حالة الإغلاق والتيه والانجذاب الهاوية إلى البصيرة والوعي والإدراك لمحاولات شياطين الجنّ والإنس للتأثير في النظام الإدراكي للأُمّة فرسم خطوطاً حدّد من خلالها:
- عدوّ الأمة الوجودي هو إسرائيل.
- عدوّ الأمّة السياسي هو أمريكا.
- قضيّة الأُمّة الأساسيّة وهي القدس.
- واجب الأمّة الأساس هو وحدتها.
واسترجع في منهجه العالم والمرأة والمسجد إلى أدوارهم الأصيلة.
وأوضح المعالم التي تحتاج الأُمّة إلى الاستنارة منها. وقد عرفت هذه الخطوط بخطّ الإمام الخمينيّ (قدس سره) الذي اعتبره ولي الأمر الإمام الخامنئيّ (دام ظله) شاخصاً ضرورياً في صيانة بصيرة الأُمّة وحمايتها من أي انحراف.
فإن أردنا أن نكون من أهل البصائر فمدرستهم عاشوراء وصفتهم الشجاعة وقائدهم وليّ الأُمّة ومحصّن بصيرتها وهدفهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة فهم فرسان المصر وأهل البصائر وقوم مستميتون.
[1] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق محمد الباقر البهبودي، ط2، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983، ج45، ص19.
[2] سورة يوسف، الآية 108.
[3] سورة القيامة، الآيتان 14- 15.
[4] الصدوق، محمد بن علي، الخصال، تعليق علي أكبر الغفاري، قم، جماعة المدرسين، 1403هـ، ص102.
[5] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن، ص198.
[6] الليثي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، ط1، دار الحديث، (لا،ت)، ص256.
[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج73، ص96.
[8] المصدر السابق، ج82، ص214.
[9] البحراني، تحف العقول، تعليق علي أكبر الغفاري، ط2، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 هـ، ص410.
[10] الإمام علي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ط1، قم، دار الذخائر، 1412هـ، ج4، ص38.
[11] الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، (لا،ط)، بيروت، دار التعارف، 1983، ج7، ص430..
[12] الطوسي، مصباح المتهجّد، ص726.
[13] محمد، أويس، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، ص436.
[14] المحمودي، نهج السعادة، ط1، بيروت، دار التعارف، 1976م، ج2، ص156.
[15] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص215.
[16] المصدر السابق.
[17] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص215.
[18] الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام)، ط2، قم، 1414، ج17، ص331.
[19] الطريحي، مجمع البحرين، ط2، طهران، طراوت، 1362، ج3، ص224.
[20] المدني، علي خان، رياض السالكين، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ، ج4، ص417.
[21] الفيروز آبادي، القاموس المحيط، (لا،ط)، (لا،ن)، (لا،ت)، ج1، ص373.
[22] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج20، ص106.
[23] سورة القيامة، الآيتان 14- 15.
[24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج73، ص96.
[25] سورة الحجر، الآيتان 39-40.
[26] محمد، أويس، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، ص436.
[27] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص 6.
[28] المصدر السابق، ص90.