إنسانيّة الرسول (صلى الله عليه وآله)

قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[1].

رسول من أنفسكم خطاب للناس لا لخصوص المؤمنين بقرينة قوله تعالى: ﴿بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ فهو رسولٌ إنسان، إنسانٌ حريصٌ على الإنسان، عزيزٌ عليه لقاء الإنسان للمكروه بسبب بعده عن الإيمان.

إنّه الإنسان المعنيّ بكلّ إنسان، الجاهد في مسيرته لإيصال كلّ إنسان إلى سعادته من خلال الإيمان، وهذا ما خاطبه ربُّه به قائلاً عزّ وجلّ: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ[2]، فالناس كلّهم في نظره عيال الله، فهو (صلى الله عليه وآله) القائل: "الخلق كلّهم عيال الله فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله"[3].

لذا مع أنّه (صلى الله عليه وآله) كان شديدًا في جبهة الحرب ضدّ من حمل السلاح معتديًا على أهل الإيمان إلاّ أنّ قلبه كان ينبض بالحنان والشفقة والتأسُّف على من آذاه.

- فهو القائل حينما أرسل إليه المشركون صبيانهم يقذفونه بالحجارة: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"[4].

- وهو المجيب زوجته خديجة الكبرى (رض) حينما نزف دمًا بسبب اعتدائهم فقالت له "دع الدم يقع على الأرض فأجابها (صلى الله عليه وآله): أخشى أن يغضب ربُّ الأرض على من عليها"[5].

- وهو الذي بكى يهوديًا يشيَّع إلى قبره، فقال له صاحبه: أتبكي على يهوديّ مات، فأجابه: "إنّما هي نفسٌ فرّت منّي إلى جهنّم".

- وهو الرادّ على صاحبه حين قال في فتح مكّة: "اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة" بقوله (صلى الله عليه وآله): "اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة".

معالم الأمّة الممهِّدة

لأنّه كان كذلك استحقّ أن يرسله الله رحمةً للعالمين، وليس لخصوص المؤمنين، وكما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[6].

ولتحقيق هذا الهدف المحتوم في قضاء الله تعالى، "ولو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد" قام رسول الرحمة بالدعوة إلى الأمّة الإسلاميّة الممهِّدة للمجتمع الإنسانيّ، ورسم القرآن الكريم معالم هذه الأمّة التي لا بدّ أن تكون في أعلى جاذبيّة للناس للتمهيد لذلك المجتمع الإنسانيّ، لذا كان وصف الأمّة الإسلاميّة أولاً بأنّها واحدة: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [7].

واللافت تقديم وحدة الأمّة على عبادة الله تعالى، وهذا يتناسب مع تقديم النبيّ هارون (عليه السلام) وحدة بني إسرائيل على انحرافهم عن عبادة الله تعالى في قوله لأخيه كليم الله موسى (عليه السلام) حينما سأله عن سب عدم تدخّله الحاسم معهم:"...إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [8].

ثانيًا: بأنّها أمّة معتدلة وسطيّة غير متطرِّفة قال تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً[9].

ثالثًا:بأنّها أمّة متسامحة في هويّة الانتساب إليها قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ"[10].

أراد الله تعالى من خلال ذلك أن تكون أمّة الإسلام

أمّة جاذبة لا منفِّرة، أمّة واحدة لا متفرِّقة، أمّة وسطيّة لا متطرِّفة، أمّة مرنة في الاحتواء لا مقصيَّة للآخرين.

محمّد (صلى الله عليه وآله) الشعيرة

والقدوة في تلك القيم كلّها هو رسول الإنسانيّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[11].

ولأنّه (صلى الله عليه وآله) كان في أعلى قيم الإنسانيّة استحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرفع وسام خلقي استحقّ أن يوصف خلقه بالعظيم من العظيم، ورد أنّ يهوديًّا أتى إلى الصحابيّ بلال الحبشيّ وقال له: أخبرني عن أخلاق رسولكم, فدلّه على السيدة فاطمة(عليه السلام) فطلب منها ذلك, فدلّته على أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي سأل اليهودي: "صف لي متاع هذه الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال الرجل: هذا لا يتيسر لي, فقال الإمام علي(عليه السلام): "عجزت عن وصف متاع الدنيا, وقد شهد الله على قلَّته حيث قال: (قل متاع الدنيا قليل)[12], فكيف أصف أخلاق النبي(صلى الله عليه وآله) وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[13]"[14].

لذا جعل الإسلام محمّدًا (صلى الله عليه وآله) شعيرة عظيمة من شعائر الله، فرفع اسمه مع رفع الأذان، وأقامه مع الإقامة، وأدخله في تشهّد الصلاة، ودعانا أن نسمِّي أولادنا باسمه، وبارك الله المسمَّى باسمه حيثحلّ، فقدورد عنه (صلى الله عليه وآله): "بورك بيت فيه محمّد، ومجلس فيه محمّد، ورفقة فيها محمّد"[15]،وحثَّناعلى أن نصلّي كلّما سمعنا أو ذكرنا اسم محمّد (صلى الله عليه وآله) على محمّد وآل محمّد (صلى الله عليه وآله). وما ذلك إلاّ لأجل قيم محمّد الإنسان الذي أرسله الله:

للرحمة لا للذبح

للحريّة لا للسبي

للجمع لا للإقصاء

للعدل لا للظلم

للإنسانيّة لا للعدوانيّة

تشويه محمّد

ومع نصوع حقيقة محمّد (صلى الله عليه وآله) فقد تعرّضت للتشويه صورة وقيمًا، من خارج دائرة الأمّة، ومِنْ مَنْ انطوى فيها.

ففي بداية البعثة المباركة حاول المشركون تشويه صورته من خلال نعوت وألقاب أطلقوها عليه، وبعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاء الخوارج عن الأمّة من داخلها يقتلون الأبرياء ذبحًا وبقرًا باسم دين محمّد (صلى الله عليه وآله). واليوم نشهد هذين النوعين من التشويه، تشويهًا من داخل الأمّة من خلال التكفيريّين الدمويّين المنفِّرين بسلوكهم من دين الإسلام، وتشويهًا من خارج الأمّة من خلال أولئك الحاملين لقلم بني صهيون الذي أخذ على نفسه تشويه المقدّسات.

ألا يؤكِّد هذا التقاطع التشويهيّ للإسلام ولنبيّه (صلى الله عليه وآله) بين التكفيريّين والمستهزئين سؤالاً حول المحرِّك لكلٍّ منهما؟

أليس من العجب أن يرفع المستهزئون شعار القضاء على الإرهاب، وفي الوقت نفسه يسعِّرون الإرهاب بنشر الصور المسيئة لرسول الإسلام، فهل هو غباء مسترسل، أو حقد أعمى، أو مخطّط مشبوه.

الموقف

إنّ الموقف ممّا نشهده من تشويه خارجيّ وداخليّ إضافة إلى الاستنكار والتنديد هو مزيد من بثّ الوعيّ والبصيرة والوحدة والتلاحم، أمّا صورة رسول الرحمة محمّد (صلى الله عليه وآله) فمهما فعلوا لن يستطيعوا تشويهها، وقد حسم الله تعالى نقاءها في مستقبل الرسالة كما في ماضيها حينما قال: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [16]. وأخيرًا: في ذكرى ولادة رسول الإنسانيّة نقول: لو علم الناس من هو محمّد لاحتفى العالم كلّه بولادة محمّد.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

* كلمة ألقيت في تمثيل سماحة الامين العام لرعاية الحفل السنوي لجامعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) العالمية في لبنان بمناسبة المولد النبوي الشريف، بمشاركة وحضور شخصيات علمائية ورسمية وفعاليات ثقافية، في مطعم الساحة - طريق المطار (الخميس 15-1-2015).


[1] سورة التوبة، الآية 128.

[2] سورة فاطر، الآية 8.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص 345.

[4] ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج1، ص 385.

[5] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص 243.

[6] سورة التوبة، الآية 33.

[7] سورة الأنبياء، الآية 92.

[8] سورة طه، الآية 94.

[9] سورة البقرة، الآية 143.

[10]سورة الحجرات، الآية 14.

[11]سورة الأحزاب، الآية 21.

[12]سورة النساء، الآية 77.

[13]سورة القلم، الآية 4.

[14]الرازي، فخر الدين، تفسير الرازي، ج32، ص 21.

[15]الطبرسي، حسين، مستدرك الوسائل، ج15، ص 130.

[16]سورة الفتح، الآيتان 1-2.


.

  • الزيارات: 21