بسم الله الرحمن الرحيم
القضية الاستراتيجية عند الرسول (ص) وأهل بيته (ع)
قال الله تعالى: "أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[1].
من أبرز ما نلاحظه في سيرة الرسول الأكرم (ص) وأهل بيته (ع) هو أنّهم حدّدوا القضية الاستراتيجية الأساسية، وعلى أساسها حدّدوا مواقفهم وتعاملوا مع مختلف ما واجهوه.
القضية الاستراتيجية في عصر الرسول (ص)
وقد كانت هذه القضية في حياة الرسول الأكرم (ص) منذ البعثة إلى الرحيل هي:
(ترسيخ أنّ القرآن الكريم كلمة الله التي أنزلها على رسوله محمد بن عبد الله (ص)، وأن الإسلامَ هو الدين العالمي الناسخ لما قبله، الخاتم الذي لا دين بعده). ويمكن أن تُلخص هذه القضية بمصطلح هو "التنزيل"، فعن الرسول الأكرم (ص): "أنا أقاتل على التنزيل..."[2]، وعنه (ص): "...قاتلتُ على التنزيل"[3]، وعن الإمام عليّ (ع): "إنّ الله بعث محمّدًا (ص)، بشيرًا ونذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل".
أ lلأجل هذه القضية بذل النبي (ص) التضحيات الجمَّة، فتحمّل شتّى أنواع المعاناة أثناء الفترة المكيّة من إهانات معنوية كوصفه بالمجنون والساحر والشاعر، إلى المجاعة التي امتدّت ثلاث سنين في شعب أبي طالب، إلى المشهد الأليم الذي لاحق فيه الصبيانُ رسولَ الله (ص) يضربونه بالحجارة، إلى المشهد المؤلم الذي رميت فيه النفايات على رأس رسول الله (ص) وهو يصلي إلى غير ذلك من مواقف توضح معنى قوله (ص): "ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت".
بlوهذه القضية هي التي كانت المحور في حروب النبي (ص) وتحالفاته:
1- فهي المنطلق والخلفيَّة لتحديد النبي (ص) مشركي قريش بأنهم الخطر الأبرز الذي يهدِّد الإسلام، ولأجل ذلك عقد تحالفاً هو أشبه بالوثيقة الوطنية، مع يهود المدينة (يثرب) ومشركيها لأجل صرف الاهتمام نحو تلك الجبهة.
2- وهي كانت المنطلق الذي منه حارب رسول الله (ص) اليهود فيما بعد، حينما نكثوا العهد وشكَّلوا تهديداً فاضحاً على الإسلام والمسلمين.
3- وهي كانت المنطلق الذي دخل منه (ص) في صلح الحديبية بعد ذلك مع مشركي قريش أنفسهم؛ لأن القضية عنده لم تكن أخذاً بالثأر وإنما كانت قضية ترسيخ الإسلام وانتشاره، مع ان بهض أصحابه لم يفهموا ذلك واعترضوا عليه في الحديبيَّة، ولم يعُوا أنّ المحرِّك للرسول (ص) لم تكن السيطرة بالقوة، بل كانت قضية الإسلام.
جlولأجل هذه القضية، سار النبي (ص) سبيل التضحية بنفسه وبالأعز حينما واجهت العقيدة الإسلامية خطراً عقائدياً من خلال ما حدث من حوار من نصارى نجران، فدعاهم بعده إلى المباهلة، وقدم إليها بنفسه وبأعزّ خلفه وهم أهل بيته (علي وفاطمة والحسن والحسين سلام الله عليهم).
دlولأجل هذه القضية دخل (ص) بنفسه معترك كسر بعض المسلّمات السلبية لدى الجاهليين، كموضوع الحاق المتبنَّى بالابن في جميع الأحكام، فتزوَّج طليقة زيد بن حارثة الذي كان النبي (ص) قد تبنَّاه سابقاً.
هlولأجل هذه القضية كان النبي (ص) يحذّر من انقلاب داخل المجتمع الإسلامي يتمثّل بإعلان الارتداد من قبل مجموعة يُخشى أن يؤدّي إلى زعزعة العقيدة الإسلامية، لذا:
1- نسج النبي (ص) بنفسه بعض العلاقات العائلية.
2- كان يَحذَر من تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بالملأ الأعلى. إلى ان أنزل الله تعالى ضمانة "وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ"[4]، إنها ضمانة لما كان يحذر منه، وهو أن لا يتزعزع التنزيل، فلا يرحل عن هذه الدنيا ونبوَّته مسلّمة في المجتمع المسلم.
القضية الاستراتيجية في عصر الأئمة (ع)
وفي الثامن والعشرين من صفر اطمأنّ النبي (ص) على نجاح قضيته المركزية ألا وهي التنزيل، لكن عينه التي لا يطفئها الموت كانت على القضية الثانية التي ابتدأت من حين رحيله وهي ما أطلق عليه (ص) مصطلح "التأويل" حينما قال (ص): "أنا أقاتل على التنزيل، وعليّ يقاتل على التأويل"[5].
وقضية التأويل هي قضية (إرساء معالم الدين المحمدي الأصيل دون تحريف يفرِّغه عن مضمونه وإن بقي القالب. فإضافةً إلى حفظ الشريعة كانت هذه القضية هي محور عمل أهل البيت (عليهم السلام)، والتي كانت في غاية الأهمية والحساسيّة في السنوات الخمسين الأولى منذ رحيل رسول الله (ص) ففي هذه السنوات وهي أعوام الجيل المسلم الأول فيها تستقر معالم الدين لتأخذ الجيال المقبلة إسلامها من خلاله وقد كان أئمة أهل البيت (ع) والسيدة الزهراء (ع) مستعدين لبذل كلِّ تضحية لأجل قضية التأويل هذه، والتي كان لا بدّ فيها من أمرين: بيان الحقّ، والتحمّل لأجل بقاء الحقّ.
إنّ كون قضية التأويل وإرساء معالم الدين المحمدي الأصيل بحقيقته هي محور مسيرة أهل البيت (ع) ومواقفهم يُفهمنا الكثير من الأمور التي حصلت في حياتهم والتي منها:
أ. دور السيدة الزهراء (ع) بعد رحيل الرسول الأكرم (ص) والذي تجلَّى بالتضحية لبيان الحقّ، وليبقَى الحقّ معلَماً واضحاً عبر التاريخ.
ب. موقف الإمام علي (ع) من الحكَّام قبله، وهو موقف الناصح بحقّ، لا المتحيِّن فرصةً للأخذ بالثأر لأنّ قضيّة التأويل هي التي كانت محور مسيرته. فهو لأجلها لم يرفع سيفه بعد السقيفة، رغم ما جرى على زوجته السيدة الزهراء (ع)، بل واكب الذين ظلموا بإيجابية حين علم أن مواكبتهم تخدم قضية التأويل. وهو(ع) لأجلها قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
ج. موقف الإمام الحسن (ع) في حربه وفي صلحه، وحينما لم يفهمه بعض أصحابه، كان جوابه أن الصلح كان لأجل قضية التأويل، لإبقاء مَنْ بدونهم لا ينجح مشروع القضية.
د. موقف الإمام الحسين (ع) في سكوته عشر سنوات بعد شهادة أخيه، وفي ذهابه إلى كربلاء هو وأهله وخاصة أصحابه في مباهلة انتصر فيها الدم الذي كان الحبر الذي ثبَّت انتصار معركة التأويل تثبيتاً لا يمكن محوه من قبل أيّ ظالم مهما علا في الأرض.
في عام 61 ه انتصر أهل البيت (ع) في معركة التأويل لتختتم السنوات الخمسين بانتصارهم المدوِّي بصوت الدم الحسيني.
القضية الاستراتيجية المعاصرة في لبنان
من مدرسة النبي (ص) وأهل بيته (ع) تعلَّم أبناؤهم في لبنان أن يحدِّدوا ببصيرة الولي، القضية الاستراتيجية التي تكون محور المسار والمواقف فكانت القضية هي: المقاومة الحافظة للوجود، المحافظة على الكرامة، المطوِّرة للمجتمع، الممهِّدة للظهور المبارك. على أساسها وُجِّهت البوصلة قتالاً، ودخولاً في المجلس النيابي، ومشاركةً في الحكومة، ورسماً للتحالفات.
لقد حاول الآخرون أن يأخذوا أبناء هذا المجتمع إلى موقع آخر، بالإغراء تارةً، وبالتهديد أخرى، لكن الوضوح في القضية هو الذي ثبَّت البوصلة دون انحراف.
والحمد لله ربّ العالمين