أبو الفضل
في استشراف لثورة كربلاء وأبطالها ورد أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل، وكان نسّابة عالمًا بأنساب العرب وأخبارهم: "انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب؛ لأتزوّجها، فتلد لي غلامًا فارسًا. فقال له: تزوّج أمّ البنين الكلابيّة؛ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها"[1].
أبو الفضل
في استشراف لثورة كربلاء وأبطالها ورد أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأخيه عقيل، وكان نسّابة عالمًا بأنساب العرب وأخبارهم: "انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب؛ لأتزوّجها، فتلد لي غلامًا فارسًا. فقال له: تزوّج أمّ البنين الكلابيّة؛ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها"[1].
وقد ورد في أحداث عاشوراء أنّ زهير بن القين جاء إلى العباس وقال له: "يا بن أمير المؤمنين، أريد ان أحدّثك بحديث وعيته، فقال: حدِّث، فقد حلى وقت الحديث.
حدث ولا حرج عليك فإنّما تروي لنا متواتر الاسناد
فقال: اعلم، يا أبا الفضل أنّ أباك أمير المؤمنين، لمّا أراد أن يتزوّج أم البنين، بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفًا بأنساب العرب، فقال (عليه السلام): يا أخي، أريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت، والحسب، والنسب، والشجاعة، لكي أصيب منها ولدًا شجاعًا، وعضدًا، ينصر ولدي هذا - وأشار إلى الحسين - ليواسيه في طفّ كربلا، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم"[2].
وفي الرابع من شعبان عام 26 للهجرة أولدت أمّ البنين العباس بن علي بن أبي طالب الذي تربّى وأخوته الذين تلوه عبد الله، وجعفر، وعثمان، في بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في ظلِّ رعاية الإمامين الحسن والحسين (عليه السلام) والسيدة زينب الكبرى (عليه السلام).
وقد عُرف أبو الفضل العباس بألقاب وصفات عديدة تعبِّر عن كمالاته منها:
1- قمر بني هاشم
فقد كان العباس رجلاً وسيمًا يركب الفرس المطهَّم، ورجلاه تخطّان في الأرض[3].
2- حامل اللواء
3- رئيس عسكر الحسين (عليه السلام)
ففي كربلاء جعل الإمام الحسين (عليه السلام) زهير بن القين على الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن عليّ[4].
وقد عُرف العباس بقوّته وقدرته العسكريّة، فكانت أمّه فاطمة بنت حزام تفتخر بذلك منشدة:
يا من رأى العباس كرّعلى جماهيـر النقد[5]
ووراه من أبناء حيدر كلٌّ ليـث ذي لبد
أنبئت أن ابني أصيببرأسه ضرب العمد
لو كان سيفه في يديهلمـا دنـا منه أحد [6]
4- السقَّا
5- أبو القربة
ومصدر هاتين الصفتين هو دور أبي الفضل العباس في كربلاء، فقد ذهب أكثر من مرّة ليأتي بالماء إلى مخيّم الحسين (عليه السلام)، حتى كانت شهادته في رحلة السقاء الأخيرة، حينما حملوا عليه، وحمل عليهم، وجعل يقول:
لا أرهب الموت إذا المـوت زقا[7] حتى أواري في المصاليت[8]لِقا
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا إنّي أنا العبـاس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشرّ يوم الملتقا
6- نافذ البصيرة
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة"[9].
والبصيرة من البصر، فالبصر للعين، والبصيرة للقلب، ونفوذ البصيرة تعبير عن عمق الوعي الذي كان يحمله العباس (عليه السلام)، هذا الوعي الذي كان واضحًا عند قادة المعسكر الآخر، وهو ما ذكره أحد قادة جيش عمر بن سعد حينما نادى أصحابه: أتدرون من تقاتلون، تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقومًا مستميتين"[10].
لقد كان العباس يعرف بوضوح أنّ معركة كربلاء لا تنحصر بحدودها الجغرافيّة، ولا بنطاقها الزمنيّ، وإنّما هي معركة ترتبط بأصل الدين، وهذا ما نتلمّسه في بيانات العباس في كربلاء، فشعرُهُ السابق يعبِّر عن هذه البصيرة، إذ يقول فيه:
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا
إذًا هو يقي ويحمي بشهادته النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمعنى دينه.
وهو الذي قال لإخوته من أمّه حينما كثرت القتلى في أهله: يا بني أمي، تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله"[11].
7- صلب الإيمان
ففي الرواية السابقة عن الإمام الصادق (عليه السلام): "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأبلى بلاءً حسنًا ومضى شهيدًا"[12].
ويعبر الإمام الصادق (عليه السلام) عن صلابة إيمان العباس في زيارته التي ورد فيها: "سلام الله وسلام ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين الزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين. أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والوصيّ المبلِّغ"[13].
هو مسلِّم لله أمره، يسير في سبيله دون أيّ اعتراض أو تلكؤ، إلاّ أن التسليم قد يكون من باب التعبُّد من دون فهم للقضيّة، وقد يكون عن تصديق بها وبصيرة، من هنا أضاف الإمام الصادق (عليه السلام) صفة التصديق (أشهد لك بالتسليم والتصديق) وهذا التسليم المنبثِق من التصديق لا يكون صامتًا، بل لا بدَّ من تفعيله في الحياة، لذا أكمل الإمام الصادق (عليه السلام): (والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل).
إذًا إنّ تجلّيات التسليم والتصديق اللذين تظهر بهما صلابة الإيمان تكمن في النصيحة، والوفاء للوليّ وهذا ما تجلّى في مسيرة العباس في كربلاء بدءً من ليلة الاختبار حينما قال الإمام الحسين (عليه السلام) لأهل بيته وأصحابه: "هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً"، فقد كان العباس أوّل المتكلّمين فقال: لم نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك اليوم أبدًا"[14].
وقد صدق بفعله قوله، فهو حينما قطعوا في كربلاء يمينه أنشد قائلاً:
والله إن قطعتم يمـينـي إنّي أحامي أبدًا عن ديني
وعن إمـامٍ صادق اليقين نجل النـبيّ الطاهر الأمين[15]
وحينما قطعوا شماله أنشد يقول:
يا نفس لا تخشي من الكفّار وأبشري بـرحمة الجـبَّار
مع النــبيّ السيـّد المختار قد قطعوا ببغيهم يـساري
فاصلهم يا ربّ حرّ النار[16]
وعن صلابة إيمانه وعزمه ووفائه يقول العلامة الشيخ عبد الحسين بن إبراهيم بن صادق العامليّ (1279-1361):
هو ذلك البسّــام في الهيجاء والعبـاس نازلة على أعــدائه
هو بضعة مـن حيدر وصفيحة من عـزمه مشحوذة بمضــائه
واسـى أخاه بموقف العزّ الذي وقفت سوارى الشهب دون علائه
ملك الفرات على ظماه وأسوةً بأخـيه مـات ولم يذق من مائه
يا مبكيًا عين الإمـام عـليك فلتبـك الأنام تـأسّيًا لبـكائه[17].
وعن منزلة العباس بعد تضحياته ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عزّ وجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"[18].
لقد استطاع العبّاس في كربلاء أن يرسم لوحة القدوة الجاذبة للشبّان الموالين لجدّه وأبيه وعمّه وأخيه
- فجراحاته مضمِّدة لجرحى المقاومة، فيومه يوم الجريح.
- وإيثاره باعث على إيثار المجاهدين: تأتي قذيفة على مجموعة مجاهدين فيرمي أحدهم نفسه عليها. يلاحظ أحد المجاهدين توجيه النار على مجاهد فيرمي نفسه تجاهه فيصاب كلاهما. كنت أثني على عمل المجاهد الذي رمى بنفسه لحماية أخيه، فقال لي لو كان مكاني لفعل مثل فعلي هكذا تربّينا.
- ووفائه صنع مجتمع الوفاء: أحدهم شاهد أم أحد المجاهدين الذين فقد عينه تتوسّل بالطبيب، فاقترب منها وسأله عمّا تريد، فأجابت: أحاول أن أقنع الطبيب أن يأخذ عيني، ويجعلها بدل عين ولدي المفقودة، ليرجع سليمًا ويقاتل حتى الشهادة.
- وصلابة إيمانه صنعت المسلمين المصدّقين المضحّين الثابتين، فلم يعد العباس وحده، ففي هذا العصر آلاف مؤلّفة يحملون من بصيرة العباس وصلابة إيمانه ونصيحته لله ورسوله، ووفاءه للوليّ. رأى أحد المجاهدين قبيل شهادته رؤية ذكرها لمن بقربه قائلاً: لقد رأيت سيّدتي زينب تبكي، فسألتها لم تبكي؟ فقالت: أبكي، لأنّه لو كان أمثالكم في كربلاء، لما قتل أخي ولما سبيت أنا.
[1]احمد بن علي، عمدة الطالب، ص356.
[2]النقدي، جعفر، الأنوار العلويّة، ص443.
[3]المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص39.
[4]ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص250.
[5]النقد نوع من الغنم قصارالأرجل، قباح الوجوه.
[6]الشاكري، حسين، العقيلة والفواطم، ص121.
[7]أي صاح.
[8]المصاليت جمع مصلاة، وهو الرجل السريع المتشمّر.
[9]أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، ص356.
[10]المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص19.
[11]المفيد، محمّد، الإرشاد، ج2، ص119.
[12]أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، ص356.
[13]الطوسي، محمّد، مصباح المتهجد، ص725.
[14]المفيد، محمّد، الإرشاد، ج2، ص91.
[15]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص40.
[16]المصدر السابق نفسه.
[17]موسوعة طبقات الفقهاء، ص302.
[18]الصدوق، الآمالي، ص 547.