ورد أن الإمام الصادق (ع) قال لزرارة: "إنَّ للقائم غيبة قبل أن يقوم... وهو المنتظر غير أنَّ الله يمتحن قلوب الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون قال زرارة: جعلت فداك، إن أدركت ذلك الزمان، أي شيء أعمل؟ قال (ع): يا زرارة، متى أدركت ذلك الزمان فلتدع بهذا الدعاء:
"اللهم عرفني نفسك؛ فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرّفني رسولك؛ فإنّك إن لم تعرِّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك؛ فإنّك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني"[1].
إن هذا الدعاء يدور حول معارف ثلاثة يطلبها المنتظِر من الله تعالى: معرفة الله، معرفة الرسول، معرفة الحجة.
وهي ما نقاربه فيما يأتي:
1- معرفة الله
مما لا شك أن الإنسان وهو الممكن الفقير لا يقدر أن يعرف ذات الله تعالى.
- قال عز وجل: "ولا يُحيطونَ بهِ عِلماً"[2].
- وفي الدعاء الوارد عن النبي (ص): "يا من لا يعلم ما هو إلا هو، ولا كيف هو إلا هو"[3].
- عن أمير المؤمنين (ع): "الحمد لله الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته"[4].
وعن أمير المؤمنين (ع):
- "هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، وحاول الفكر المبرأ من خطر الوساوس أن يقع عليه من عميقات غيوب ملكوته، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم ذاته، ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه وتعالى فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته"[5].
إلا أن عدم معرفة كنه الله تعالى وذاته لا يعني عدم مطلوبية معرفته تعالى، كيف وقد ورد عن أمير المؤمنين "ع": "أول الدين معرفته"[6].
لذا حينما أراد أحدهم أن يقحم أمير المؤمنين "ع" فسأله:
"هل رأيت ربك؟ فأجاب (ع): أفأعبد ما لا أرى؟! قال: وكيف تراه؟ فقال (ع): لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مبائن، متكلم لا بروية، ومريد بلا همة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتجب القلوب من مخافته"[7].
إذاً يمكن للإنسان رغم قصوره أن يتعرف على الله تعالى لا بالكنه والذات، وإنما من خلال الصفات والأفعال.
ومعرفة الله المطلوبة في هذا الدعاء هي المعرفة المرتبطة بمعرفة النبي (فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيك) وهي ما يمكن مقاربتها من خلال إحدى الصفات الإلهية، وهي صفة الحكمة التي تعني وضع الأمور في مواضعها المناسبة.
فمن لا يضع الأمر في موضعه المناسب فهو يفعل ذلك إما عن جهل أو عجز أو حاجة،
والله تعالى عالم لا جهل في ساحته
قادر لا ضعف في ساحته
غني لا عجز في ساحته
إذاً هو حكيم
وعليه اسأل الله الحكيم العالم القادر الغني: لماذا خلقتني؟
ولا بد أن تكون الإجابة لأجل مصلحتي أنا، لأنه عز وجل غني عن العالمين.
لذا سيكون الجواب حتماً: خلقك لأجلك لأجل كمالك.
وهنا اسأل: هل يمكن لي أن أتعرف على الطريق التي أُحقق في السير فيها كمالي المنشود؟
ومن الواضح أن الجواب هو بالنفي، فأنّى للإنسان أن يتعرف بنفسه على الطريق التي تلائم جسده ونفسه، فرده ومجتمعه، دنياه وآخرته. إذاً لا بد لله تعالى الحكيم أن يرشدني إلى هذه الطريق.
وهنا يأتي دور الأنبياء في هداية الناس إلى طريق كمالهم.
إذاً إن لم أعرف الله الحكيم العالم القادر الغني، فإني لن أتعرف على النبي، وبهذا أعرف معنى "اللهم عرِّفني نفسك؛ فإنَّك إنْ لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيَّك..."[8].
2- معرفة الرسول
"اللهم عرِّفني رسولك...".
بما أنَّ هذا الدعاء وارد في زمن الغيبة، فإن المراد من الرسول (ص) هو خاتم الرسل محمد بن عبد الله (ص) الذي عرّفه الله تعالى في القرآن الكريم بأنه:
- "رسُول الله"[9].
- "خاتمِ النبَّيين"[10].
- "رَحمةً لِلعَالمين"[11].
- "لعلى خُلُقٍ عَظيمٍ"[12].
- " أسوةٌ حسنةٌ"[13].
- "وداعياً إلى الله"[14].
- "وسراجاً منيراً"[15].
وعرَّفه أمير المؤمنين (ع) بأنه:
- - "أخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعزّ الأرومات مغرساً، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه...فهو إمام من اتقى، وبصيرة من اهتدى، سراجٌ لمع ضوؤه، وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنَّته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل"[16].
- "الخاتم لما سبق والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحق"[17].
- "أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته"[18].
- سأل يهودي أمير المؤمنين (ع) قائلاً صف لي أخلاق نبيِّكم، فسأله الإمام علي (ع): "صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل: هذا لا يتيسر لي، فقال الإمام علي (ع): عجزت عن وصف متاع الدنيا، وقد شهد الله على قلته حيث قال تعالى: "قُل مَتَاعُ الدُّنيا قَليلٌ"[19] وكيف أصف أخلاق النبي (ص) وقد، شهد الله بأنه عظيم حيث قال تعالى "وإنَّك لَعلَى خُلُقٍ عَظيمٍ[20]"[21].
-
ومعرفة الرسول (ص) الواردة في الدعاء هي المعرفة التي ترتبط بمعرفة الحجة (فإنك إن لم تعرِّفني رسولك لم أعرف حجتك)، وإن تغيير التعبير من النبي إلى الرسول (لم أعرف نبيّك، اللهم عرِّفني حجتك) تشير إلى ارتباط بين معرفة الرسالة ومعرفة الحجة. وهو الارتباط ذاته بين حادثة الغدير وإتمام الدين (اليوم أَكْمَلتُ لَكُم دينَكُم[22]).
إن تحقيق هدف الرسالة الخاتمة في إيصال الإنسان إلى كماله احتاجت إلى أمرين:
الأول: تبليغ الرسالة وحفظها من الضياع، وقد جهد النبي (ص) في سبيل ذلك وبلغ ما بلغ، إلا أن الفرصة المتاحة له في الأوضاع المعروفة في التاريخ لم تتح له التبليغ المباشر في حياته، فقد قضى رسول الله (ص) في تبليغ رسالته في مكة 13 سنة آمن فيها ما يزيد قليلاً عن الأربعمائة، وهاجر حوالي نصفهم الهجرتين، أما السنوات العشر الباقية فبلَّغ بها في المدينة في وسط غزوات وسرايا بلغت الـ 83. أي كل أقل من شهر ونصف كانت معركة إضافة إلى فتن اليهود والمشاكل الداخلية.
كل ذلك أدّى إلى أن يكون التبليغ النبوي للرسالة عبر تخزينها في الإمام علي (ع) ليحفظها، ويبلغ تفاصيلها من بعده.
الثاني: القيادة القدوة في إيصال الناس إلى كمالهم.
فإذا وجد حامل التشريع الإلهي، وقائد الناس إلى كمالهم، فإنَّه يمثِّل حجة الله على الناس في تحقيق هدف وجودهم وغاية مسارهم. لذا كانت معرفة الرسول مدخلاً لمعرفة الحجة، فلولا معرفة الرسول لما عرف الحجة. من هنا نفهم معنى: " اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك".
3- معرفة الحجة
"اللهم عرِّفني حجتك، فإنك إن لم تعرِّفني حجتك ضللت عن ديني".
إن المراد من الحجة هنا بشكل أخصّ هو صاحب العصر والزمان (عج) باعتبار أن الدعاء وارداًَ ليكون في زمن الغيبة على لسان منتظري الإمام (عج).
ومعرفة الإمام (عج) لها دائرة واسعة جداً في عناوينها،
- فهو الإمام المعصوم،
- وهو خاتم الأوصياء،
- وهو صاحب المقام الذي لا يسعه ملك مقرّب،
- وهو صاحب النفس الذي تتجرّد روحاً ليلتقي بالروح ليلة القدر.
- وهو المطّلع على صحائف أعمالنا بشكل دوري.
- وهو حامل الاسم الأعظم دون ما اختص الله به ذاته.
- وهو وارث الأنبياء وصاحب قميص ابراهيم ويوسف وعصا موسى وحجره ونعل شيث وتابوت السكينة.
وهو...وهو...وهو...
إلا أنّ ما يشير إليه الدعاء هو المعرفة المرتبطة بالدين بحيث تكون هذه المعرفة وما ينتج عنها تُثمر تمسكاً بالدين والسير به، وعدمها ينتج ضلالاً عن الدين وانحرافاً عنه، وبالتالي فإن معرفة الإمام (عج) هذه لها ارتباط بالهدف الإلهي المنطلق من حكمته والذي به يحقق الإنسان كماله المنشود. وعلى أساس ذلك اختار الإمام الصادق (ع) في هذا الدعاء صفة "الحجة" دون غيرها من الصفات. مما تقدّم نعرف أنّ هذه الحجة من الله علينا تقوم على أمرين أساسيين:
الأول: يتعلق بالدين وحفظه، فالحجة هو حافظ الدين ومكمل تبليغه.
الثاني: يتعلق بالقيادة القدوة التي تسلك بالإنسان والمجتمع إلى طريق الكمال.
لذا ورد عن النبي (ص) في الحديث المشهور عن أهل السنة والشيعة "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"[23].
وعليه فإنّ معرفة الإمام بعنواني الدين والقيادة تحقق الاعتقاد النظريّ السليم، إلا أنّ ذلك لا يكفي في تحقيق الهدف، بل لا بد من السلوك الملائم لهذه المعرفة التي تتطلع إلى إظهار الدين وانتشاره في كل الأرض، وإلى قيادة العدل والقسط في جميع أنحاء العالم.
وما يلائم ذلك من سلوك هو التمهيد العملي لتحقيق هاتين القيمتين وذلك من خلال العمل الدؤوب على إيجاد مجتمع الدين والعدل ليكون مساهماً فعلياً في ذلك التمهيد.
إلا أن تحقيق هذا الأمر في زمن الغيبة يحتاج إلى مرجعية شرعية وقيادة حكيمة لتكوين هذا المجتمع وبعبارة أخرى تحتاج إلى حجّة تمهّد المجتمع للحجة الكبرى. لهذا انبرى الإمام المهدي (عج) يرشد الناس إلى اتباع حجته في الغيبة التي تمهّد إلى حجة الله فقال (ع):
"فأما الحوادث الواقعة فارجعوا بها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"[24].
والارتباط بالفقهاء رواة الحديث هو ارتباط بالتشريع والدين من ناحية، وارتباط بالقيادة القدوة من ناحية أخرى.
ولهذا ورد عن الإمام الهادي (ع): "لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا عليه السلام من العلماء الداعين إليه، والداعين عليه، والذابين عن دينه حجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته... لما بقي أحد إلا ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها. أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل"[25].
والخلاصة:أنّ الإمام الصادق (ع) يوجِّهنا في زمن الغيبة للإمام المهدي (عج) أن لا ننسى أنّنا مسؤولون عن تحقيق هدف وجودنا الذي عرفناه من حكمة الله تعالى، ومن خلالها بحثنا عن الرسول، وآمنا به، ومن خلاله بحثنا عن الحجة في الشريعة بعده وعن قائد مسيرة البشرية التي تحقق كمال المجتمع الإنساني. ومسؤوليتنا - حتى لا نضل عن ديننا-، تتحقّق حينما نرتبط بالإمام الغائب كحجة في الدين وفي قيادة العالم نحو العدالة الشاملة. وذلك عبر التمهيد له تحت ولاية الفقيه الذي يمثّل حجّة الإمام علينا. فطاعة هذا الولي الفقيه المتمثّل في عصرنا بالإمام السيد علي الخامنئي دام ظله هي خير موائمة عملية لهذه المعرفة التي أصرّ الإمام الصادق (ع) أن ندعو الله أن يمنحنا إياها في عصر غيبة الإمام المهدي (عج) عسانا نكون من الممهّدين له، الساعين بخدمته، المستشهدين بين يديه.
[1] المصدر نفسه، ج52، ص146.
[2] سورة طه، الآية110.
[3] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج83، ص334.
[4] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج4، ص317.
[5] المصدر نفسه، ج54، ص107.
[6] المصدر نفسه، ج4، ص247.
[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج4، ص52.
[8] المصدر نفسه، ج52، ص146.
[9] سورة الأحزاب، الآية 40.
[10] المصدر نفسه.
[11] سورة الأنبياء، الآية 107.
[12] سورة القلم، الآية4.
[13] سورة الأحزاب، الآية21.
[14] المصدر نفسه، الآية46.
[15] المصدر نفسه.
[16] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج16، ص379.
[17] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج16، ص378.
[18] المصدر نفسه، ج24، ص249.
[19] سورة النساء، الآية77.
[20] سورة القلم، الآية4.
[21] الرازي، تفسير الرازي ج32، ص21.
[22] سورة المائدة، الآية 106.
[23] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج8، ص368.
[24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص90.
[25] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص6.