
الإمام علي (عليه السلام) بين حديثي الإنذار والغدير
قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[1].
الإمام علي (عليه السلام) بين حديثي الإنذار والغدير
قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[1].
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[2].
1- لأنّ هدف الإسلام وصول قافلة البشرية إلى كمالها من خلال الحكومة الإلهيّة العامة ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[3]
2- ولأنّ هذا الهدف لا بدّ له بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) عن مسارٍ متسلسل مع أوعية طاهرة حاضنة لكتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله) تُختم بمن يتحقّق على يده تلك الحكومة الإلهيّة المحمّدية.
3- ولأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بتعليم الله تعالى كان يعرف أهميّة أن يعرِّف الناس منذ البداية بمن يبدأ معه ذلك المسار.
لأجل ذلك كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يغتنم كلّ فرصة ومناسبة ليعرِّف فيها الناس على خليفته الذي به يبدأ المسار، ويكتمل ببقية السلسلة الطاهرة.
البداية كانت بعد خلوة حراء التي كان يتحدث عنها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: "لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري"[4].
وبعد انقضاء الفترة الأولى التي تحدّث عنها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: "ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة، وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشمُّ ريح النبوة"[5].
بعد انقضاء تلك الفترة الخاصّة أمر الله تعالى نبيّه محمداً (صلى الله عليه وآله) أن يبتدئ دعوته علناً بدعوة عشيرته الأقربين فأنزل الله تعالى عليه: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[6].
دعا النبي (صلى الله عليه وآله) الأقربين من عشيرته وأنبأهم أنّ الله تعالى اختاره رسولاً للبشرية ثم سألهم: "أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟"[7].
لم يجبه أحد إلا الشاب الصغير في سنّه علي بن أبي طالب.
فقال (صلى الله عليه وآله): "إنّ هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا"[8].
بعدها انطلق النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدعو المسلمين إلى تولّي الإمام علي (عليه السلام) فكان يقول لهم:
- "من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنة عدنٍ غرسها ربي، فليوالِ علياً من بعدي، وليوالِ وليّه، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي، فإنّهم عترتي، خلقوا من طينتي، ورزقوا فهمي وعلمي، فويل للمكذّبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي"[9].
- "أوصي من آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب، فمن تولاه فقد تولاني، ومن تولاني فقد تولى الله، ومن أحبّه فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجل"[10].
- وحينما غادر النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة المنوّرة، وترك علياً (عليه السلام) حاكماً قال له:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي"[11].
- ولأنّ مقام الخلافة والوصاية والإمامة تنبع من كمالات من يختاره الله تعالى، ومدى قربه منه عزّ وجل أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يعرِّف الناس على كمالات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بل سمع المسلمون بكمالات الإمام علي (عليه السلام) عن طريق الكرامة في بعض المواقف.
والنماذج على ذلك:
- في معركة بدر بعد أن قتل الإمام علي (عليه السلام) نصف المشركين واشترك في النصف الآخر سُمع نداء من السماء يقول: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي"[12].
- في معركة الخندق قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما برز الإمام علي (عليه السلام) لعمرو بن عبد ود العامري: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"[13].
- في معركة خيبر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، يفتح الله على يديه. فلما كان من الغد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليّ بعلي، فجاءه أرمد العينين، فـ... تفل (صلى الله عليه وآله) في عينيه، وعقد له رايةً ودعا له، فما انثنى حتى فتح خيبراً"[14]. فعرف المسلمون أنّ علياً هو الرجل الذي يحبّ اللهَ ورسوله، ويحبّه اللهُ ورسوله، وهو الكرّار غير الفرّار، وهو الذي يفتح الله على يديه.
- وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للإمام علي (عليه السلام): "لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم قولاً لا تمر بملأ إلا أخذوا من تراب رجليك ومن فضل طهورك يستشفون به"[15].
- وفي المدينة، وبأمر الله تعالى، أغلق رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلّ الأبواب المطلّة على المسجد إلا باب علي (عليه السلام).
* وعبّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) غير مرّة عن قرب الإمام علي (عليه السلام) منه بشكل استثنائي:
- فحينما وصل إلى قبا قبيل المدينة المنوّرة رفض النبي (صلى الله عليه وآله) أن يدخلها، وانتظر في قبا أكثر من عشرين يوما ً. لماذا؟
لأن عليّاً (عليه السلام) لم يأتِ بعدُ من مكّة مع الفواطم، فانتظر (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) حتى أتى ودخل النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة مع عليّ (عليه السلام) حتى لا يراه أهل المدينة أوّل مرّة إلاّ هو (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام).
- وحينما أُتي للنبيّ بطائر مشوي تذكّر عليّاً (عليه السلام)، وأبى أن يأكله دونه، ودعا الله تعالى: "اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك، فجاء علي بن أبي طالب، فقال له أنس: رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغول، فرجع، وجاء بعد ساعة، ودقّ الباب، فردد له أنس مثل ذلك، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أنس، افتح له، فطال ما رددته، فقال أنس: يا رسول الله، كنت أطمع أن يكون رجلاً من الأنصار، فدخل علي بن أبي طالب فأكل معه الطير"[16].
* وعبّر النبيّ أكثر من مرّة، انطلاقاً من كمالات الإمام علي (عليه السلام) عن حبّه له (عليه السلام)، داعياً إلى توجّه المؤمنين إليه بالحبّ، فعنه (صلى الله عليه وآله):
- متوجّهاً إلى الإمام علي (عليه السلام):"النظر إلى وجهك يا علي عبادة، أنت سيد في الدينا وسيد في الآخرة، من أحبّك أحبني، وحبيبي حبيب الله، وعدوّك عدوّي وعدوّي عدوّ الله، الويل لمن أبغضك"[17].
- "لو اجتمع الناس على حبّ علي ابن أبي طالب لما خلق الله عز وجل النار"[18].
- "من أحبّ علياً قبل الله تعالى منه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه، ألا ومن أحبّ علياً أعطاه الله بكل عرقٍ في بدنه مدينة في الجنة"[19].
بعد كلّ هذه البيانات أراد الله تعالى أن يبلّغ رسوله الناس إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الملأ العام، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حذراً في ذلك من الانقسام الذي قد يؤثّر بشكل سلبي على رسالة الإسلام، فإذا بالله تعالى يوضّح لرسوله أهميّة هذا التبليغ بما له ربط بهدف الرسالة الإسلامية بحيث إنّ عدم التبليغ يؤدّي إلى عدم حصول ذلك الهدف، مضيفاً إلى رسوله ضمانة بعدم تأثير ذلك على رسالة الإسلام فإنّها معصومة بعصمة الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[20].
استجابةً لأمر الله تعالى فاجأ رسول الله المسلمين الحجاج العائدين إلى ديارهم حينما وصلوا إلى منطقة غدير خم التي تفترق منها قوافل الحجيج، وذلك حينما أمرهم أن يصنعوا منبراً عالياً في وسط نهار حارّ وصف أنّ الدجاجة لو وضعت فيه على الأرض لانشوت من حرّ الشمس.
فإذ بالمسلمين يأتون بما تيسّر لهم من متاعهم وممّا هو على ظهور دوابّهم وصنعوا من ذلك منبراً كبيراً عالياً فصعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه، وخطب بين المسلمين قائلاً:"الحمد لله ونستعينه و نؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضل، ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله –أما بعد-:
أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإنّي أوشك أن أدعى فأجبت، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حق وناره حق وأنّ الموت حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى[21] فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين[22] فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عزّ وجل وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها النّاس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغايب، ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي"[23].
بذلك كان اليوم الثامن عشر من ذي الحج عيداً عظيماً ليحتفي به المسلمون كلّ عام، لأنّ ما جرى فيه يتعلّق بهدف الرسالة ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[24] وهدف الرسالة المحمديّة يتحقّق من خلال سلسلة الإمامة التي كان مطلعها الإمام علي (عليه السلام) وسيكون خاتمها الإمام المهدي (عج).
والغدير هو عنوان لبداية السلسلة التي لولاها لما تحقّق هدف الرسالة وبالتالي لما تحقّق هدف الخلق.
لذا فإنّ ما نستحضره في ذكرى الغدير هو التمسّك بالإمام الحجّة المهدي (عج) الواجب الطاعة عبر الانقياد لحجة الحجّة التي عرَّفنا (عج) عليها بقوله: "أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله"[25].
بطاعته وولائه ولاءًا لإمامنا وإمامه نمهّد التمهيد الحقيقيّ لهدف الإسلام الكبير في تلك الحكومة التي يملأ الله بها الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
والحمد لله رب العالمين
[1] سورة الشعراء، الآية 214.
[2] سورة المائدة، الآية 3 .
[3] سورة التوبة، الآية 33.
[4] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق إبراهيم الميانجي ، محمد الباقر البهبودي، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي،1983، ج14، ص 475.
[5] المصدر السابق.
[6] سورة الشعراء، الآية 214.
[7] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج38، ص222.
[8] المتقي الهندي، كنز العمال، تحقيق بكري حياني، (لا،ط)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1989، ج13، ص133.
[9] المصدر السابق، ج12، 103.
[10] المصدر السابق، ج11، ص610.
[11] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار،ج2، ص 226.
[12] الكافي، الكليني، محمد بن يعقوب، ج8، ص110.
[13] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج20، ص215.
[14] المصدر السابق،ج42، ص156.
[15] المصدر السابق، ج39، ص18.
[16] المتقي الهندي، كنز العمال، تحقيق بكري حياني، (لا،ط)، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1989، ج13، ص167.
[17] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج40، ص83.
[18] المصدر السابق، ج39، ص248.
[19] المصدر السابق، ج27، ص120.
[20] سورة المائدة، الآية 67.
[21] الصنعاء، عاصمة اليمن. وبصرى: قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.
[22] الثقل، بفتح المثلثة والمثناة: كل شيء خطير نفيس.
[23] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 37، ص184.
[24] سورة التوبة، الآية 33.
[25] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص90.