الحياة الأقوى (الشهادة)
في ذكرى ولادة أمير المؤمنين أودّ الحديث عن رسالة ولادة الإنسان التي عنوانها الحياة. فحياة الإنسان تبتدئ عند الناس من لحظة الولادة.
وعيد الميلاد هو الذكرى السنويّة لبدء حياته.
ما معنى الحياة؟
القرآن الكريم يتحدّث عن تسبيح جميع الكائنات ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[1]]، ويفسِّر الإمام الخمينيّ ذلك بأنّه تسبيح حقيقيّ ينطلق من الأشياء من موقع إدراكها، فكلّ شيء له إدراك إلاّ أنّه يتفاوت قوّة وضعفًا بين الكائنات، فالجماد إدراكه ضعيف خافت، والإنسان إدراكه يتدرّج من الضعف إلى القوّة.
فبداية الإنسان مادةٌ تنمو في رحم الأمّ، إلى أن تصل مرحلةً يتأثّر فيها الجنين بالصوت ويتفاعل معه ولعلّ لحظة التفاعل الأولى هي بداية تكوّن النفس، أي بداية حياة الجنين بإدراك متطوِّر عن إدراك المادّة، ممّا يعني أنّ تكوّن النفس هو تكوّن للإدراك والشعور ويتنامى هذا الإدراك القهريّ الاضطراريّ إلى أن يولد الإنسان ليبدأ مرحلة إدراك أعلى ثمّ أعلى ثمّ أعلى.
وكلّما زاد إدراكه كلّما قويت حياته، فإن كانت الحياة تعني الشعور بالفرح والسعادة، باللذة والألم، بالراحة والتعب، بالحبّ والبغض، بالأمن والخطر، إلى ما شاكل ذلك، فإنّ كلّ هذه المفردات هي وليدة الإدراك.
أنا قد أخسر كلّ مالي وقد يموت أعزّ أحبائي، لكنيّ إن لم أعرف، وإن لم أدرك أنّي خسرت وأنّي فقدت، فأنا لا أحزن.
وقد يربح الإنسان مالاً وفيراً، ويعيَّن في منصب رفيع، ويولد له ولد جميل، لكنّه إن لم يعرف بذلك لا يفرح.
قد أكون في موقع خطر، وأحدهم يصوِّب قناصته نحو رأسي، لكنّي لا أعرف ولا أدرك ذلك، فأنا لا أشعر بالخطر.
وقد يعتقد الإنسان بأنّ عدوّه سيقتله بعد لحظات قليلة، والواقع ليس كذلك، فإنّه يفقد الأمن ويشعر بالخطر.
إذاً التفاعل مع الأمور الذي هو عبارة أخرى عن الحياة هو وليد الإدراك والشعور والمعرفة.
لذا فكلّما قوي إدراك الإنسان بشكل صحيح كلّما كانت حياته أقوى.
وتأتي لحظة انفصال النفس عن الجسد، ليصبح الجسد خائر القوى، فيطلق على هذه الحالة "الموت". والموت في لغة العرب يعني فقدان القوّة التي هي الحياة.
ففي هذا الموقع يأتي القرآن الكريم ليتحدّث عن استثناء لما يعتقده البعض قاعدة مفادها: انفصال النفس عن الجسد يعني الموت فيقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[2].
إنّه يؤكّد أنّ المقتول في سبيل الله لم يفقد حياته، ولم تضعف حياته، بل قويت حياتهم فأصبحت حياة ليست من الصنف السابق فهي لست حياة عند الأبوين، ليست حياة عند الأسرة، ليست حياة عند الرفقة، بل أصبحت حياة عند الربّ تعالى ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾.
وأكّد القرآن أنّ هذا ا لأمر لا بدّ أن يلتفت إليه في الأدبيات التعبيريّة، فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾[3].
إنّهم أحياء يشعرون ولكن المشكلة فيكم أنتم يا أحياء الدنيا أنّكم لا تشعرون، فشعورهم أقوى من شعوركم.
إذاً، اللهُ تعالى يميّز المقتول في سبيل الله بالحياة التي هي الشعور والإدراك والمعرفة ذلك لأنَّ المقتول في سبيل الله لا بدّ، حتى ينال تلك المرتبة، أن يحمل المعرفة والوعي والبصيرة؛ لأنّ قتل النفس بدون هدف حرام، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[4]
وحتى يجوز الإقدام على قتل النفس، ويكون قتلها في سبيل الله تعالى لا بدّ من إدراك ومعرفةٍ للقضيّة التي تستأهل أن يقدّم الإنسان نفسه في سبيلها أي أن يكون على وضوح وهدى من أمره، لذا ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): "الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فإنّما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى، ومطيع له مقتدٍ بهداه"[5].
لأجل أهمّية هذه البصيرة والوعي والمعرفة لم يختر الإسلام للمقتول في سبيل الله مصطلحًا يتعلّق بالمسلك، فلم يقل له، عابد، سالك، بل اختار له مصطلحًا يتعلّق بالمعرفة. وما يتعلّق بالمعرفة مصطلحات كثيرة منها العالم، المفكّر، الفاهم، الفقيه، الحافظ، الشاعر، الذاكر، لم ينتقِ ممّا مرّ أيًّا منها، بل اختار مصطلح الشهيد، لأنّ:
- العالم هو الذي تحضر صورة الشيء أو ماهيّته في ذهنه.
- والمفكّر هو الذي يسير من المجهول إلى المعلومات الذهنيّة ويدور فيها للرجوع إلى المجهول بهدف معرفته.
- والفاهم هو الذي تنتقش صورة الشيء في ذهنه.
- والفقيه هو الذي تثبت تلك الصورة في ذهنه.
- والحافظ هو الذي لا تتغيّر تلك الصورة في ذهنه ولا تزول.
- والشاعر هو الذي يدرك الشيء إدراكًا دقيقًا.
- والذاكر هو المستحضر للصورة في ذهنه بعد غيابها.
- بينما الشهيد هو الذي يشهد الشيء أي ينال نفس الشيء لا صورته، يشهد نفسه لا ماهيّته.
-
من هنا ينعكس شهودُه في الآخرة قوةً في الحياة فتصبح حياة ربّه، حياة يطلع فيها عالم برزخه الجميل:
سياحته في الجنّة.
كساؤه من الجنّة.
ريحه من الجنّة.
ومنزله يراه في الجنّة.
والأجمل من كلّ ذلك هو شهود أكبر وأكبر وأكبر وهو ما يعبّر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه: "ينظر في وجه الله وإنّها لراحة لكلّ نبيّ وشهيد"[6].
- وبعد نفخ الصور تبرز قوّة حياة الشهيد قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾[7].
فقد نقل الشيخ الطوسيّ في تفسير جوامع الجامع عن أبي جبير في تفسير من شاء الله: "هم الشهداء متقلّدو السيوف حول العرش"[8].
إنَّ مقام الشهيد هذا يتوقّف على أمرين:
الأوّل: المعرفة التي تحدّثت عنها.
الثاني: توفّر البيئة الجهاديّة، فقد يوفّق الإنسان للمعرفة، لكنّه يكون في عصر ومكان ليس فيه مقتضيات الجهاد في سبيل الله، وبالتالي لا ينال الشهادة.
وهذا خارج يده وقدرته واستطاعته.
لذا فحينما تتوفّر للإنسان ظروف وبيئة الجهاد في سبيل الله مع تلك المعرفة، فإنّ ذلك يُعدّ من النعم الكبرى على الإنسان، وفتحًا لباب الشهادة التي لم يوفَّق لدخوله كثيرون.
وبيئة الجهاد تحتاج إلى أمرين:
الأوّل: وجود إمام الهدى الذي يقتدى بهداه، وهو الذي يعطي شرعيّة للجهاد والقتال.
الثاني: وجود الذين يصدّون عن سبيل الله الذين يمنعون سلوكه والذين تجلّوا في التاريخ الإسلاميّ بعنوانين:
الأوّل: اليهود المحاربين الكائدين للإسلام.
الثاني: الحاقدين على أهل الحقّ المحاولين لمنعهم سلوك السبيل.
وهذا هما وجهان لعملة واحدة.
وسيرة الإمام عليّ (عليه السلام) التي كلّها في سبيل الله أوضحت هذا الأمر جليًّا فقد حاربه الخوارج الذين كفّروه، وقتله خارجيّ منهم، لكنّه بين خلفيّة قتله بقوله: قتلني ابن اليهوديّة فهو خارجيّ يهوديّ اللذان هما عنوان للصادّين عن سبيل الله.
ونحن اليوم أنعم الله علينا بتأمين البيئة الجهاديّة عبر الأمرين السابقين:
فمن نعم الله علينا أنّنا نعيش في ظل ولاية فقيه، نائبٍ لصاحب العصر والزمان (عج) عارفٍ بأمور الزمان والمكان، بصيرٍ بمؤامرات الأعداء، واضح في تشخيص تكليف الأمّة، وهو نعمة الله الكبرى الإمام الخامنئيّ دام ظلّه.
ومن نعم الله علينا أن فتح لنا باب الجهاد بأبلغ وضوح من اليهود الصهاينة والحاقدين الذين يعملون معًا بنفس خلفيّة المؤامرة التي انطلقت منها حرب تموز لتغيير معالم الشرق ليصبح شرقًا جديدًا لا يحمل فكر الإسلام المحمّديّ الأصيل، وقيمه، بل يعيش التابعيّة الفكريّة والقيمة لأسياده ومستعبديه من قوى العالم وظنّوا أنّهم يستطيعون بحرب تموز أن يصنعوا شرقهم، لكنّهم خسئوا لأنّ المقاومة برجالها ومجتمعها بكلّ ما فيه استطاع أن يستنزل نصر الله بقيادة نصر الله واليوم تعود المؤامرة بسيناريو جديد باستهدافات متدرّجة تطال محاور المقاومة أرادوا استفرادها واحدة تلو الخرى، بمشهد وحشيّ ينطلق إضافةً إلى مصالح الآخرين من حقد دفين لا إنسانيّة فيه، ولو بحدِّها الأدنى.
مشهدٍ تنتهك فيه حرمات الأموات ولو كان من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومشهدٍ يمثّل فيه بحثث المسلمين ويغطى تمثيلهم بفتاوى حاقدين، مشهدٍ تهدر فيه مراقد الصالحين ولو كانوا أبناءً أو بنات لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد أراد الاستكبار أن يحقِّق بهذه المشاهد غايتين الأولى تحقيق مصالحهم والثانية تشويه صورة الإسلام وسمعته.
ولكنّ رجال الله كانوا أو ما زالوا بالمرصاد
ولكنّ مجتمع المقاومة، مجتمع أيار وتموز كان ولا يزال واعيًا لمخطّطاتهم، آبيًا عن التنازل عن الكرامة، عارفًا بأنّ المعركة اليوم هي معركة الدفاع عن القيم، عن أهل البيت (عليهم السلام)، عن الكرامة، عن المجتمع، فرفع مجتمع المقاومة شعار تضحيته بأبنائه: "لن تسبى زينب مرّتين".
وعلى صوت أمّ الشهيد وهي تقول لولدها: "بيّضت عند سيّدتي زينب".
وافتخر أبو الشهيد أنّ ابنه قضى دفاعًا عن كرامة هذا المجتمع وتحصينًا لعزّته.
بكلّ هذا كان أجمل احتفال أسعد قلب أبي زينب عليّ بن أبي طالب في ذكرى ولادته الطاهرة.
[1] سورة الإسراء، الآية 44.
[2] سورة آل عمران، الآية 169.
[3] سورة البقرة، الآية 154.
[4] سورة النساء، الآية 29.
[5] المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج74، ص405.
[6] الطوسيّ، تهذيب الأفكار، ج6، ص121.
[7] سورة الزمر، الآية 68.
[8] الطوسي، تفسير جوامع الجامع، ج3، ص229.