مداخلة الشيخ د. أكرم بركات في ندوة وحفل توقيع كتاب
الشيخ فضل مخدّر
(الحاكم عند الفارابي بين الإسلام والفلسفة)
26-10-2015/ قصر الاونيسكو
مداخلتي تدور حول كلمتين
1- كلمة في الكاتب:
- قبل أكثر من ربع قرن تعرَّفت عليه شيخاً معممّاً.
- بعدها زرته في بابليّته أنظر إليه رسَّاماً يتألق في لوحاته الفنيّة الجميلة.
- ثمّ سمعته شاعراً ينشد قصائده الفاتنة في الغزل المنسابة نحو الكمال الديني.
- ثمّ قرأته أديباً روائياً ينسج مجتمع المقاومة بمغزله العامليّ.
- وعرفته خلال ذلك مديراً يدور بين الحوزة العلميّة وأئمّة الجماعات وديوان النشر ومؤتمراته واتّحاد الكتاب ومنتديات الثقافة والأدب.
- وها هو اليوم يدخل حقل الأكاديميّة في الفلسفة السياسيّة في وليده الجديد "الحاكم عند الفارابي، بين الإسلام والفلسفة"، ولا أدري في ما أتعرّف عليه في مشهده القادم.
2- كلمة في الكتاب
من مميِّزات المعلّم الثاني الفارابي أنّه صاحب منظومة معرفيّة هدفت إلى المواءمة بين العقل والنصّ الدينيّ بعد محاولاته للمواءمة بين عقول الفلاسفة الإغريق لا سيَّما أفلاطون وأرسطو.
وأطروحته حول الحاكم مصداق بارز في هذه المواءمة التي انطلق فيها من محوريَّة الله تعالى في الوجود الذي بدأ - بمعرفة العقل – في دائرته الإمكانيَّة من العقل الأول (الأول في الكمال الإمكاني الجبري) واستمرّ لينتهي في سلسلة العقول الطوليّة بالعقل الفعَّال الذي من خلاله يحصل الفيض على الإنسان هادفاً من خلال ذلك الفيض تحقيق كمال الإنسانيّة وسعادتها.
أطروحة الفارابي في الحاكم بلغة العقل
إنّ الله تعالى في أطروحة الفارابي كمال مطلق، خلق المخلوقات لأجل كمالها الاضطراري (المتمثّل بداية في العقول) والاختياريّ الذي انتهى بالإنسان، وبما أنّ الإنسان لا يمكنه بأدوات معرفته أن يتعرَّف على طريق كماله، الفردي والاجتماعي، فكان الاتصال من العقل الفعَّال ببعض الناس بهدف كمالهم الفرديّ، وليكونوا واسطة بين الله والناس في كمال المجتمع وسعادته، فبحسب هذه الأطروحة العقليّة يكون الإنسان الذي اتّصل به العقل الفعَّال ( أو حلَّ به) هو الواسطة بين واجب الوجود والمجتمع الإنسانيّ لإيصال هذا المجتمع إلى كماله وسعادته، وبهذا يتحقّق المجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة في الحياة الإنسانيّة، والذي يكون الحاكم فيها هو المحور باعتبار كمالاته الإلهيّة، فهو، بتعبير الفارابي، كالقلب بالنسبة إلى سائر البدن.
أطروحة الفارابي في الحاكم بلغة النصّ الديني
إنّ هذه الأطروحة العقليّة توائم بوضوح أطروحة الدين الذي يحكي توسّط الملك بين الله تعالى والإنسان النبي لإيصال المجتمع إلى سعادته، قال الفارابي: "والعقل الفعَّال هو الذي ينبغي أن يقال أنّه الروح الأمين وروح القدس..."[1].
الحاكم الفطريّ في أطروحة الفارابي
على أساس ما تقدَّم بيَّن الفارابيّ أنّ الحاكم الذي يعدّ الرئيس الأوّل لدولته والملك فيها هو "الذي لا يحتاج، ولا في شيء أصلاً، أن يرأسه إنسان، بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالعقل، ولا تكون له حاجة في شيء ممّا ينبغي أن يعمل من الجزئيات، وقوة على جودة الإرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ من يعلّمه، وقدرة على استعمال كلّ من سبيله أن يعمل شيئاً في ذلك العمل الذي هو معدّ نحوه، وقدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديد نحو السعادة"[2].
ويعرّفنا الفارابي على سرّ هذا الإنسان الكامل بقوله: "وإنّما يكون ذلك في أهل الطبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعَّال"[3].
وقد وضَّح الفارابي خصال هذا الطبع العظيم الفائق باثنتي عشرة خصلة يفطر عليها الرئيس[4].
إنّ هذا الحاكم والرئيس بهذه المواصفات يصدق بحسب النصّ الإسلاميّ على النبي، ويصدق بحسب الطرح الشيعيّ الإماميّ الاثني عشريّ على الأئمّة الإثني عشر، مع ملاحظة أنّ الشيعة يؤمنون بانقطاع الوحي التشريعيّ بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لحصريَّة التشريع "ووضع النواميس" بشخص النبي (صلى الله عليه وآله)، لكنّهم يروون في أحاديثهم مواكبة الغيب لأئمّتهم بواسطة نوع من الإلهام، فعن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "إنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجلّ لأمور عباده، يشرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يَعيَ بعد بجواب، ولا يحيد فيه عن الصواب"[5].
الحاكم غير الفطري في أطروحة الفارابيّ
لا تتوقّف أطروحة الفارابي عند الحاكم المفطور بالطبع على مواصفات الرئاسة، فهو يتنزل في طرحه إلى صورة المجتمع الذي لا يكون ذلك الحاكم الخاصّ حاضراً فيه، فينتقل من الحاكم بالفطرة إلى الحاكم بالإرادة، ناصّاً على ستَّة شرائط إراديّة لا بدّ أن تتحقّق فيه هي:
1- أن يكون حكيماً.
2- أن يكون عالماً حافظاً للشرائع والسنن والسير للرؤساء السابقين.
3- أن يكون له جودة الاستنباط.
4- أن يكون له جودة رويَّة وقوة استنباط في المستحدثات، ويكون متحريّاً صلاح المدنية.
5- أن يكون له قوة بيان شرائع واستنباط الأوّلين والإرشاد إليها.
6- أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب...[6]
والملاحظ أنَّ هذه الأمور تدور حول العلم والكفاءة، وقد يُضاف إليها المسلكيّة المستقيمة إن قلنا: إن الحكمة تتضمَّن ذلك.
وبنظرته الواقعيّة يكمل الفارابيّ أطروحته ليتحدَّث عن حالة لا تتوفر فيها هذه الشروط في حاكمٍ واحدٍ بل توفَّرت بعضها في واحد والبقية في آخر، فيكونان هما الرئيسين، وإذا توزَّعت على أكثر تكون الرئاسة لهم مجتمعين.
الحاكم بين الفارابيّ والخمينيّ
إنّ ما طرحه الفارابيّ ينسجم إلى حدّ كبير مع ما في المذهب الإسلامي الشيعي الاثني عشري كما نراه جلياً في أطروحة الإمام الخميني (ره) حول الحاكم في الرؤية الإسلاميّة، مع ملاحظة أنّ الفارابي يتحدّث من مدخل العقل المجرَّد، وبعد اكتمال نظريّته يأتي بالنصّ الدينيّ مؤيّداً لأطروحته العقليّة، في حين ينطلق الإمام الخميني (ره) منذ البداية من العقل القطعيّ الناظر إلى القطعيَّات الدينيّة. فالإمام الخميني كما الفارابي ينطلق من محوريّة الله تعالى وهدفيّته في تحقيق كمال المخلوقات، ومنها الإنسان على المستويين الفردي والاجتماعي بما تقتضيه ذلك في بيان خريطة طريق لهذا الكمال والتي هي رسالة الدين الذي لا بدّ أن يكون اجتماعياً في أطروحته لتحقيق الكمال الاجتماعيّ، وبالتالي هو بحاجة إلى حاكم لتطبيق الطرح الإلهيّ في المجتمع، لإيصاله إلى كماله وسعادته وهذا الحاكم ليحكم باسم الدين لا بدَّ أن يكون عالماً بمبادئه وأهدافه وقوانينه، كفؤاً على المستوى القياديّ، ومؤتمناً في تطبيق تلك القوانين، ويعبّر الإمام الخميني (قده) على علاقة الحاكم بالمجتمع بالولاية وهو مصطلح قرآني أصيل يعني القرب الخاص ويتضمّن نوعاً من السلطة، وذلك تعبيراً عن المماهاة العقديّة والمسلكيّة التي ينبغي أن تشترك فيها الأمّة وحاكمها مما يجعله في دائرة القرب منها. وهذا الحاكم الولي لا بدّ أن يكون، كما هو رأي الفارابي، الأكمل بين الأمّة، لذلك فإنّ الحاكم في عصر النبي هو النبي نفسه، وفي عصر الإمام المعصوم بعد النبي هو المعصوم نفسه، وفي حال غيبة المعصوم عن الأمة، فإنّ الأكمل بين الأمة في العلم والكفاءة والعدالة يكون هو الحاكم الشرعي والولي على الأمة، وبما أن العلم هو الفقاهة بالمصطلح الخاص، يكون هو الولي الفقيه.
لقد اتّفق الفارابي والخميني في إنشاء المنظومة التي واءمت بين العقل والنص، وزاد الإمام الخميني القلب في مشهد المواءمة فتحدث عن الأسفار الصدرائية الأربعة الموصلة نحو الكمال والسعادة، لكنه استطاع أن يخرجها من قمقم النظرية والفردية، إلى السلوك الاجتماعي، يبتغي بذلك أن يخوض تجربة لم تتوفّر للفارابي والملا صدرا، في إيجاد مجتمع يرأسه الحاكم غير المفطور بتعبير الفارابي والولي الفقيه بتعبير الامام الخميني, يمهِّد به للمدينة الانسانية الفاضلة الكبرى التي سوف تتحقق بمقتضى العقل المدرك لحكمة الحكيم، وبنص الدين القويم على يد الرئيس الكامل لتقرّ بها عينا الفارابي والخميني في مرقديهما.