مهرجان الرحمة والحب

كلمة الشيخ الدكتور أكرم بركات في احتفال جامعة المصطفى(ص) فرع لبنان بمناسبة ذكرى ولادة الرسول الأكرم (ص)

 

إحياء ذكرىً يعني إحياءً لكمالات صاحبها كي تنبضَ بها حياة المعتبرين، فإن كان الراحل هو الإنسانَ الكاملَ الذي تجسَّدت فيه كمالاتُ عالم الإمكان. وإن كان الراحل غير راحل، بل انتقل إلى عالم أقوى ذي اتصال، فإنّ الإحياء لا يعود لذكرى ماضية، بل يكون القبسَ من جذوة هذه الحياة الخالدة، وإن الكمال لا ينحصر في ضيق، بل يتسع في المساحة الأرحب للوجود.

من تلك الجذوة، لا لنحيي ذكرى محمد، بل لنحيا بمحمد، أحوم حول قبسٍ من جذوة كماله ألا وهو "البصيرة".

 وهو المصطلح القرآني الذي على أساسه كانت دعوتُه مع التابعين له في مسيرته، قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". والبصيرة هي رؤية العقل للواقع والحقيقة، مقابل البصر الذي هو رؤية العين للمادة. البصيرة تعني أن نرى المشهد كلّه، وأن نقرأ خلفيّاته التي أثّرت في وجوده. لنحدِّد، في ضوء ذلك المسارَ الذي من خلاله نصل إلى الهدف المنشود، في ضوء ذلك فإنّ المشهد الذي كانت بصيرة رسول الله (ص) تقع عليه، هو مشهد الوجود كلَّه من عالم الوجود المنبسط إلى خلود الدارين.

وبينهما كان النبي (ص) قد حدَّد القضيّة الأم في مشروعه الإسلامي الذي انطلق من مبدأ تكامل البشرية الصعودي لتتهيّأ لتحمُّل الكمالات الأعلى، وهذا ما كان ابطاله الأُوَل في تاريخ الإنسانية هم أولو العزم الخمسة. فمع نوح (ع) آمنت بشريّة السفينة بالتواصل مع الله عبر الرسول الإنسان، ومع إبراهيم (ع) سارت البشريّة في درب التوحيد لله عزَّ وجلَّ، ومع موسى (ع) عاشت البشريّة قضيّة التشريع ومع عيسى (ع) كانت الخطّة أن تنتقل البشريّة لطور جديد وقف اليهود عقبة أمامه ليرفعه الله تعالى إليه، ولعلّ ذلك لأنّ دوره سيكتمل لاحقاً مع عزيزه القادم.

ومع محمد (ص) كان إعلانه لساحة رسالته (ص): قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ".

وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".

إنّ الآية الأولى تؤكِّد أنّ ساحة رسالته (ص) الناسُ كلُّ الناس بغاية قيميةٍ هي الرحمة لهم، والآية الثانية توضِّح الهدف الأخير لرسالته (ص) وهو إقامة الدين على الدين كله.

ولأنّ ساحة الرسالة هي الناسُ كلُّ الناس خاطب الله تعالى الناس بقوله: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".

والنداء هنا للناس غير المؤمنين، بشهادة التعقيب "بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ". وبقرينة ذيل الآية نعرف أنّ الرسول (ص) كان عزيز عليه شقّ والناس من المؤمنين وكان حريصاً على الناس غير المؤمنين.

ولأجل ذلك كان رسول الله (ص) يجابه من يرشقونه بالحجارة "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وكان يبكي على يهوديّ يشيِّع معلّقاً إنما هي نفس فرّت مني إلى جهنّم.

ولأن الرسالة عالمية، مشروعها تغيير العالم فتح الإسلام بابه على الآخرين بسهولة دون تعقيد، فاعتبر كفاية التعبير اللفظي عن الإسلام للحكم بإسلام اللافظ، قال تعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ"[1]. وقد كان رسول الله (ص) يقبل اسلام الإنسان بمجرَّد بالنطق بالشهادتين.

وكانت مسيرة النبي (ص) هي تثبيت هذا الدين في المجتمع، وكانت حروبه توجّه إلى من يشكل اعتداء على هذا الدين، وإلاّ فما معنى أن يوقع وثيقة التفاهم في المدينة مع مشركيها، وفي الوقت نفسه يحارب مشركي مكة، أليس لأنَّ المواجهة لم تكن مع المشركين بما هم هم، بل كانت لكون مشركي مكة يشكّلون تهديداً للكيان الإسلاميّ.

وأيضاً ما معنى أن يوقِّع النبيّ (ص) صلح الحديبية مع مشركي مكة أليس لأن التهديد قد رفع به، لتحقيق بعد الصلح الجاذبيّة للإسلام بالشكل الأقوى.

لقد كانت القضية الأمّ في حياة رسول الله (ص) هي التنزيل بنشر رسالة الإسلام، لتكون القضية بعدها هي التأويلَ الذي ثبّته الحسين (ع) في انتهاء الجيل الأول للرسالة عام 61 هـ بدمه الطاهر، ولتكون القضية بعد ذلك هي التمهيد لتحقيق حكومة الله الكبرى حكومة العدل والإيمان الذي يجتمع فيها المسيح عيسى بن مريم (ع) مع المهدي من آل محمد (عج).

ودورنا التمهيدي ينطلق من تلك البصيرة بتهيئة مجتمع اسلاميّ يعيش الإنسانيّة في حياته، والوحدة بين سائر المسلمين، ويميِّز الصديق من العدوّ، ويحدِّد القضيّة الأم لتكون لها الأولويّة في مساره وعلى أساسها ينسج تحالفاته وخصوماته وعداواته، فالعدوّ هو عدوّ القضيّة المحارب لها، وليس ما يخالف في الرأي، من هنا ففي ذكرى الرسول الأكرم (ص) نؤكِّد:

أولاً: على ضرورة العمل الدائم، لا سيّما من العلماء، على إظهار الصورة الحقيقية لرسول الله (ص) ورسالته، أمام ما ينالها من التشويه.

ثانياً: على وحدة المسلمين سنّة وشيعة، لا سيَّما تجاه المحاولات التي باتت مكشوفة وعمليّة لدسِّ الفرقة بينهم، ومن راقب تردّد المصطلح بتوتير متعمّد من قبل السياسة الأمريكيّة ومن في دائرتهم يعرف مدى الخطورة في ذلك. كما أشار إليه الإمام الخامنئي (دام ظله) البارحة.

ثالثاً: على التعايش الوطني بين أبناء هذا البلد العربي الذي تحيطه المخاطر من الخارج إضافةً إلى بؤر الداخل، وقد بات من الواضح أنّ العالم مشغول عنه.

رابعاً: إنّ القضيّة الأمّ هي القضيّة الفلسطينيّة التي يجب أن تبقى بوصلةُ الأمّة متوجّهة إليها.

خامساً: على الدفاع عن المظلومين أينما وُجدوا في اليمن أو فلسطين أو البحرين أو نيجيريا.

سادساً: على المقاومة التي حمت وتحمي الوطن من العدو الصهيوني وأعزّته.

في ذكرى ولادة رسول الله (ص) نسلِّم على إمام الوحدة الراحل الخميني العظيم (قده) وعلى الولي المفدَّى الذي في ضوء بصيرته نسلك ونذلّل العقبات، كما نسلِّم على أبطال المقاومة الذين بجهادهم يشعِّون القبس الآتي من جذوة الرسالة.

 

 

 

 

(كلمة الشيخ الدكتور أكرم بركات ممثّلاً سماحة الأمين العام ألقيت في الحفل السنوي الثاني "مهرجان الرحمة والحب" الذي نظّمته جامعة المصطفى (ص) العالمية - فرع لبنان)



[1] سورة الحجرات، الآية 14.