الأسس العقلية والكلامية لولاية الفقيه
دويّ كبير حصل في إيران عام 1979 بهر العالم وأرَّق سادته حينما نجحت الثورة الإسلامية في إيران ليعلن قائدها الإمام الخميني (قدس سره) إنشاء حكومة إسلامية تنطلق أسسها الفكرية من مبدأ طالما حاضر فيه قائد الثورة قبل نجاحها على منبر حوزة النجف الأشراف أمام طليعة علمائية كبيرة ألا وهو «ولاية الفقيه» الذي شكّل المرجعية الأساس والمفصل الرئيس في قضايا الحكم في إيران من الدستور إلى التفريعات القانونية.
ومما شد انتباه العالم في هذه الثورة هو أن ولاية الفقيه التي تشكل العمدة لها لم تكن مطروحة في الكتب الإسلامية المشهورة والتي تدور أبحاثها حول النظام الإسلامي و أشكاله.
وذلك لأن العالم وقتها لاسيما الغرب منه كان قد اعتاد قراءة كتب أهل السنة ومراجعهم في حين تنطلق ولاية الفقيه من مذهب لم يكن يعبأ به كثيراً قبل الثورة، ولم تكن كتبه تشكّل أساسا للبحث حول الإسلام في أكثر جامعات العالم لذا كانت الثورة الإسلامية منطلقاً لدراسة متأنية وجادة عن أطروحة الحكم هذه.
ولا أفشي سرا إن قلت إن جملة كبيرة من مثقفي الشيعة تعرفوا على هذه الأطروحة مع بداية الثورة، ومنها انطلقت بحوثهم ودراساتهم، وكانت الأبحاث في تلك المرحلة تتركز على توضيح الأطروحة والبحث في أدلتها، ثم تطور البحث بين المعتقدين بها إلى الحديث عن مكانتها ومنزلتها في أصول الفكر الإسلامي لاسيما الشيعي ألإمامي منه.
واللافت في حركة التطوّر هذه هو ما قدمَّه العلامة الشيخ عبد الله جوادي آملي وهو من الأساتذة البارزين في العلوم المعقولة والمنقولة في حوزة قم المشرفة إذ اعتبر الآملي أن الإمام الخميني (قدس سره) استفاد في ثورته من التدرّج الذي حصل سابقاً في علاقة الفقيه بالأمة التي ابتدأت بعلاقة المحدِّث بالمستمع، ثم تطورت إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين إلى أن بدت تتضح معالم ولاية الفقيه في الأبحاث العلمية، إلا أن العلامة الآملي رأى أن الإمام الخميني (قدس سره) قام بإنجاز عظيم من خلاله ظهرت النتائج وقامت الثورة، وذلك أن ولاية الفقيه كانت مدفونة في الفقه بعد أن أخرجت من علم الكلام «ومن ثم لم تجد النمو الكافي الذي يجعلها (أصلها ثابت وفرعها في السماء)؛ لأنها لم تجد مكانها الحقيقي بل بقيت في إطارها الفقهي»(1).
وما قام به الإمام الخميني (قدس سره) من إنجاز عظيم هو أنه أخرج بحث ولاية الفقيه المظلوم من دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، ثم أخذ يتوسع به بالبراهين العقلية والكلامية وقرنه بالبحوث الفقهية فظهرت النتائج(2) وكلام العلامة الآملي هذا يشدّ الباحث للوغول في مضمار هذا التفسير لسّر نجاح الثورة فما معنى كون إخراج ولاية الفقيه من علم الفقه وإدخالها علم الكلام يشكل أساسا في نجاح الثورة وظهور نتائجها؟!
فهل هذا التفسير صحيح؟! وإن كان صحيحاً فإنه يكشف لنا سرا من أسرار النجاح لدولة الإسلام في إيران. والمفروض أن يكون مبنيا على أسس علمية ومنهج صحيح كما يظهر من كلام الآمل؟ والوصول إلى جواب شافٍ عن هذه الأسئلة لا بد أن يمَّر في محطات تشكل مقدمات منطقية له.
المحطة الأولى: أن نتعرَّف على الضابطة العلمية التي تميِّز مسائل علم الكلام عن علم الفقه.
المحطة الثانية: أن نشرع في تطبيق ضابطتي العلمين الشريفين على مسألة ولاية الفقيه لنحدد بذلك مظلتها العلمية.
المحطة الثالثة: أن نبحث عن النتائج والآثار التي تترتب على فقهية ولاية الفقيه أو كلاميتها ليكون
ذلك المدخل السليم لتقويم كلام العلامة الآملي الآنف الذكر.
المحطة الأولى: المعيار العلمي للتمييز بين علمي الكلام والفقه مما لاشك فيه أن لكل علم محوراً أومحاور تدور حولها مسائله، فمحور علم الطب هو البدن، ومحور علم الحساب هو العدد ومحور علم النحو هو الكلمة والكلام. وهذا المحور أو المحاور هو المنطلق
الأساس في تعريف العلم الذي جعله العلماء المرجع الميزاني في تحديد عنوان العلم الذي تنسب إليه المسألة.
من هنا قال قطب الدين الرازي في شرحه على الشمسية: «لابد من تصوّر العلم برسمه ليكون الشارع فيه على بصيرة في طلبه، فإنه إذا تصوَّر العلم برسمه وقف على جميع مسائله إجمالاً حتى أن كل مسألة منه ترد عليه عَلِم أنها من ذلك العلم»(3)
وعليه فيمكن للباحث من خلال تتبع تعاريف العلوم الوصول إلى الضابطة السليمة والمعيار العلمي لاندراج المسألة تحت أي علم.
محور علم الكلام
وقبل ذكر ما يستفاد من تعاريف علم الكلام يحسن التنبيه إلى أمرين:
الأول: انه من الواضح أن ذكر المسألة في كتب علم ما ليس دليلاً على كونها من مسائل ذلك العلم إذ نجد كثيراً من الحالات بحثت فيها مسائل علم في كتب علمٍ آخر من باب الاستطراد ونحوه، وذلك كبحث «الجبر» ذي الجنبين الكلامية والفلسفية الذي بحثه العالم النحرير الآخوند الخراساني في كتابه الأصولي المشهور «كفاية الأصول».
الثاني: أن من الواضح للباحث العالم أن كون دليل المسألة عقلياً لا يمثل ضابطة للمسألة الكلامية فان هناك مسائل ينحصر دليلها بالعقل وهي من علم آخر.
ولعل إشارة كثير من العلماء إلى هذا الأمر لكونه محلاً للاشتباه عند البعض.
أما ما يستفاد من تعاريف علم الكلام والذي يخلو من شوائب قد ترد على غيره فهو أن محور هذا العلم والذي يمِّيزه عن غيره من العلوم والذي تدور حول كل مسائله هو «الله ذاتاً وصفةً وفعلاً وقد عبِّر عن هذا المحور بتعابير مختلفة كـ «المبدأ والمعاد» و «ذات الصانع وأحواله» كما أضيف إليه قيد «على قانون الإسلام» لتميز علم الكلام الإسلامي عن الفلسفة وهذا ما نلاحظه في تعريف الإمام الخميني(قدس سره) لعلم الكلام بأنه «علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام»(4).
المحطة الثانية: محور علم الفقه
برز في كلمات الفقهاء تحديدان لمحور علم الفقه:
الأول: فعل المكلف، لأن الأحكام الشرعية التي هي محمولات مسائل علم الفقه تدور حول ذلك الفعل.
الثاني: الحكم الشرعي أو ما يقوم مقامه من وظيفة عملية من حيث استفادته من الأدلة.
والفرق بين هذين التحديدين أن الأول قائم على النظر إلى الدائرة التي تحوم حولها محمولات العلم، بينما الثاني قائم على النظر إلى الدائرة التي يحوم حولها البحث، وتنصب عليها الدراسة. وعل كلٍّ فإن مسائل علم الفقه تشمل أمرين:
الأول: أحكام الفعل الجسماني، كاستحباب رفع اليدين في تكبيرة الإحرام.
الثاني: أحكام الفعل القلبي، كوجوب التصديق بأن الصلاة واجبة(5).
ولاية الفقيه بين علمي الكلام والفقه
قبل تحديد العلم الذي تنطوي تحته مسألة ولاية الفقيه لا بد من بيان انه لا مانع من كون مسألة والمكلف.رج تحت علمين مختلفين وذلك لوجود جهتين في تلك المسألة تدرجها جهةٌ منها في علم والأخرى في علم آخر ومثال ذلك مسألة النبوة فهي تارة يبحث فيها من جهة وجوب بعث الأنبياء بمعنى انه يجب من الله تعالى ذلك فيكون البحث فيها كلامياً لأنها تتعلق بفعل الله تعالى.وتارة يبحث فيها من جهة وجوب تصديق الناس بالأنبياء فيكون البحث فيها فقهياً إذ هو يتعلق بفعل المكلف. وانطلاقاً من هذا فانه مما لا شك فيه كون ولاية الفقيه مسألة فقهية من جهة ما يبحث فيها من وجوب رجوع المكلَّفين إلى الولي الفقيه في عصر الغيبة الكبرى، وهذا ما لا ينكره أحد حتى القائلين بكلامية ولاية الفقيه فإنهم يعترفون بفقهيتها من هذه الجهة.
فهناك أدلة موجّهة إلى فعل المكلف كمكاتبة إسحاق بن يعقوب «...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله»(6) فباعتبار هذا الدليل الروائي تكون ولاية الفقيه مندرجة في المسائل الفقهية.
الجهة الكلامية لولاية الفقيه
هناك مسلكان يصحِّحان اندراج ولاية الفقيه في علم الكلام:
المسلك الأول: أن نستفيد من فقهية ولاية الفقيه فنثبت بذلك اندراجها في علم الكلام، وذلك لأنَّ ثبوت الحكم الشرعي على المكلف يفهم منه باللازم وجود الأمر الإلهي بذلك، والأمر الإلهي هو فعل من أفعال الله تعالى وبالتالي يندرج تحت علم الكلام.
فالمكاتبة السابقة توجب على المكلَّفين إطاعة الفقيه، وهذا يعني بالملازمة أن الله تعالى قد أمر بإطاعته وأمره فعل من أفعاله، وبالتالي تكون ولاية الفقيه من هذه الجهة كلامية.
ويلاحظ على هذا المسلك أنه عام لكل مسائل الفقه، فإن كل واحدة من مسائله لها لازم كلامي، وبالتالي فإنه لا يعطي لولاية الفقيه خصوصية في كونها كلامية، فلا يكون لما قاله العلامة الآملي معنى أصلا.
المسلك الثاني: أن نستفيد من الدليل العقلي على ولاية الفقيه لإثبات كلاميتها، فإذا أثبتنا أنه يجب من الله تعالى أن يولّي الفقيه على الأمة ولو من خلال تبيان الصفات والشرائط فإننا نكون قد أثبتنا الفعل الإلهي من دون المرور عبر قناة علم الفقه، وبهذا تكون مسألة ولاية الفقيه قد حازت على شروط انضمامها إلى علم الكلام بالأصالة لا بالتبع ومن هذا المنطلق نطلّ على كلام الإمام الخميني(قدس سره) في كتابه المعروف «الحكومة الإسلامية» الذي تعرّض في القسم الأول منه إلى الدليل على ولاية الفقيه على الأمة، من دون الاستدلال بالنصوص الخاصة المطروحة في هذا المضمار. ودليل الإمام الراحل هذا، وإن كان يتّسم بأنه عقلي إلاّ أنه يعتمد على مرتكزات إسلامية كان للنصوص دور في تكوّنها.
الدليل العقلي على ولاية الفقيه
(أ) يبدأ الإمام(قدس سره) دليله على ولاية الفقيه بمسلَّمة وبديهية خلاصتها أن ماهّية القوانين الإسلامية تفيد أنها قد شرعت لأجل تكوين حكومة، ويذكر الإمام(قدس سره) أمثلة على ذلك منها:
1 الأحكام المالية: كالزكاة والخمس والجزية وغيرها معقِّبا ًبقوله: «...خمس سوق بغداد يكفي لاحتياجات جميع السادة ولجميع نفقات المجامع العلمية الدينية ولجميع فقراء المسلمين، فضلا عن أسواق طهران واسطنبول والقاهرة وغيرها، فميزانية بمثل هذه الضخامة، إنما تراد لتسيير أمة كبرى، ولإشباع الحاجات الأساسية المهمة للناس، والقيام بالخدمات العامة الصحية، والثقافية، والتربوية، والدفاعية والعمرانية».
2 أحكام الدفاع الوطني: والتي أنزل الله تعالى فيها {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}(7).
قال(قدس سره): «ومن جهة أخرى نرى أن أحكام الجهاد والدفاع عن حياض المسلمين لضمان استقلال وكرامة الأمة تدل هي الأخرى عن ضرورة تشكيل هذه الحكومة».
3 الأحكام الجزائية: ويتحدّث الإمام(قدس سره) عن مثل ثالث هو أحكام الحدود والديّات والقصاص قائلا: «ولا يمكن لهذه الأحكام أن تقام بدون سلطات حكومية، فبواسطتها تؤخذ الديّة من الجاني، وتدفع إلى أهلها، وبواسطتها تقام الحدود، ويكون القصاص تحت إشراف الحاكم الشرعي»(8).
(ب) ويكمل الإمام(قدس سره) بمسلّمة أخرى وهي أن الأحكام الإسلامية لم تكن خاصة بعصر النبي، بل ضرورة تنفيذها مستمرّة «لأن الإسلام لا يحدّ بزمان أو مكان، لأنه خالد فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيُّد به إلى الأبد، وإذا كان حلال محمد حلالاً إلى يوم القيامة، وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن تعطّل حدوده وتهمل تعاليمه، ويترك القصاص، أو تتوقف جباية الضرائب المالية، أو يترك الدفاع عن أمة المسلمين وأراضيهم، واعتقاد أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة، أو لمكان محدود يخالف ضروريات
العقائد الإسلامية، وبما أن تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم وإلى الأبد من ضرورات الحياة، لذا كان ضروريا وجود حكومة فيها مزايا السلطة المدبرة، إذ لولا ذلك لساد الهرج والمرج والفساد الاجتماعي، والانحراف العقائدي والخلقي، فلا سبيل إلى منع ذلك إلا بقيام حكومة عادلة تدير جميع أوجه الحياة، فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل أن ما كان ضرورياً أيام الرسول وفي عهد الإمام أمير المؤمنين من وجود الحكومة لا يزال ضروريا إلى يومنا هذا».
(ج) وبعد أن فرغ الإمام من بيان الدليل على ضرورة وجود حكومة إسلامية في كل عصر بدأ الحديث عن شروط الحاكم فقال: والشروط التي ينبغي توفرها في الحاكم نابعة من طبيعة الحكومة الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن الشروط العامة كالعقل والبلوغ وحسن التدبير هناك شرطان مهمان هما:
1 العلم بقانون الإسلام.
2 العدالة.
فبما أن الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون، كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون.
كما ورد في الحديث وكل من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة، فإنه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه، وبمقدار حاجته، والحاكم أعلم من كل ما عداه، وكان أئمتنا قد أثبتوا جدارتهم بأمانة الناس بما سبقوا إليه من العلم، وما أخذه علماء الشيعة على غيرهم إنما يدور أكثر ذلك حول المستوى العلمي الذي بلغه أئمتنا وقصر عن سواهم. فالعلم بالقانون والعدالة من أهم أركان الإمامة، وإذا كان الشخص يعلم الكثير عن الطبيعة وأسرارها ويحسن كثيرا من الفنون، ولكنه يجهل القانون، فليس علمه ذلك مؤهلا إياه للخلافة، ومقدّما إياه على غيره ممن يعلم القانون ويعمل بالعدل.
وقد أصبح من المسلمات لدى المسلمين من أول يوم وحتى يومنا هذا أن الحاكم أو الخليفة ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون، وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق، وهذا ما يقتضيه العقل السليم، خاصة ونحن نعرف أن الحكومة الإسلامية تجسيد عملي للقانون، وليست ركوب هوى، فالجاهل بالقوانين لا أهلية فيه للحكم، لأنه إن كان مقلّدا في أحكامه، فلا هيبة لحكومته، وإن لم يقلّد فإنه يعجز عن تنفيذ الأحكام مع فرض جهله التام بها(9).
وعليه فان الإمام الراحل (قدس سره) يؤكد في كلامه هذا أن من صفات الحاكم الإسلامي أن يكون فقيها عادلا فالفقاهة هي الاصطلاح الشرعي المعبّر عن العلم بالقانون.
(د) ومما تقدم يخلص الإمام(قدس سره) إلى أنّ من مسّلمات الإسلام في كلّ عصر ضرورة وجود الحكومة التي يترأسها الفقيه العادل ليقود المجتمع على ضوء أحكام الإسلام، ويترتّب على ذلك أنه «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا».
ويتابع الإمام(قدس سره) موضحاً ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة، لأن فضائلهم لم تكن تخوّلهم أن يخالفوا تعاليم الشرع، أو أن يتحكموا في الناس بعيدا عن أمر الله.
وقد فوّض الله الحكومة الإسلامية الفعلية المفروض تشكيلها في زمن الغيبة نفس ما فوّضه إلى النبي وأمير المؤمنين من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد، غاية الأمر أن تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل.
هذه هي خلاصة الدليل العقلي الذي عرضه الإمام الخميني(قدس سره) على ولاية الفقيه العادل.
نظرة في الدليل العقلي على ولاية الفقيه
يلاحظ من البيان المتقدّم أن الإمام الراحل(قدس سره) صاغ مقدمات كل الدليل الآنف الذكر على أساس أنها مسلّمات وضروريات فانطلق من مسلَّمة كون أحكام الشرع الإسلامي هي أحكام حكومة إلى مسلّمة أخرى بوجوب تنفيذ هذه الأحكام في كلّ عصر إلى مسلّمة ثالثة بأن من يترأس الحكومة التنفيذية لهذه الأحكام يشترط فيه الفقاهة والعدالة إلى أن خلص أن الأحكام الاجتماعية العامة التي يصدرها هذا الفقيه ملزمة لأفراد الأمة مما يعني أن له ولاية عليها. وقد صرّح الإمام(قدس سره) في بداية كتابه الحكومة الإسلامية بان فكرة ولاية الفقيه هذه هي بديهية لا نظرية اعتماداً منه على هذه المسلَّمات الواضحة التي تمثل مقدِّمات لها فقال(قدس سره) «ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرف الإسلام أحكاما وعقائد يرى بداهتها» مفيدا بذلك أن ولاية الفقيه هي بديهية وإن لم تكن عامة إلا أنها بديهية خاصة بمن عرف عقائد الإسلام وأحكامه.
وبحدود دائرة الولاية التي تحدث عنها الإمام وهي تنفيذ الأحكام الاجتماعية يبدو ما ذكر في الدليل واضحا ومسلما كما نصّ الإمام على ذلك.
نعم قد يناقش إن حصر البحث في إطار الدليل العقلي في مدى ضرورة كون الولي فقيهاً مجتهداً وأنه هل يكفي كونه مؤهلا لتطبيق الأحكام الإسلامية بنظر مجتهد آخر يقلّده أم أن ذلك لا يليق بحكومته إذ أن ذلك يضعفها مما يعيّن كون الحاكم فقيهاً. وهنا لا بدّ من التأكيد أن هذا النقاش يتم إن استثنينا النصوص الشرعية التي تحدّثت بوضوح عن لزوم فقاهة الولي والحاكم كما استفاد ذلك منها الإمام الخميني (قدس سره) وعلماء آخرون.
وعوداً على بدء فإن الدليل العقلي الذي عرضه الإمام الخميني(قدس سره) على ولاية الفقيه يثبت بأن الله تعالى هو الذي شرّع ومنح هذه الولاية للفقيه فتكون ولاية الفقيه راجعة إلى فعل الله تعالى.وبهذا الاعتبار يمكن إثبات كونها كلامية بشكل مستقل من دون مرور بقناة علم الفقه كما كانت الحال في المسلك الأول.
نعم بلحاظ النقاش السابق حول ضرورة فقاهة الولي وعدمها يكون القدر المتيقن هو أن الله تعالى منح الولاية للحاكم العادل من دون تقييده بالفقاهة وعليه تندرج مسألة ولاية الحاكم تحت مظلة علم الكلام.
والنتيجة هي أن إدراج ولاية الفقيه أو على الأقل ولاية الأمر في مسائل علم الكلام يمكن أن يقوم على أسس علمية لكن يبقى السؤال حول ما طرحه العلامة الآملي بأن إخراج الإمام الخميني(قدس سره) لبحث ولاية الفقيه من دائرة الفقه التي ظلم فيها إلى موقعه الأصلي في علم الكلام هو إنجاز عظيم يشكل إحدى الأسس الفكرية التي قامت عليها الثورة وهذا ما ينقلنا إلى المحطة الثالثة في هذا البحث.
المحطة الثالثة: نتائج المبنى الكلامي لولاية الفقيه
في البداية ألفت إلى أني لم أجد فيما تتبعت من كلمات الإمام الخميني(قدس سره) أي نص له يتبنى فيه كون ولاية الفقيه مسألة كلامية بل أقصى ما اطلعت عليه هو الاستدلال العقلي على هذه الولاية ومع ذلك فإني سأحاول في هذه العجالة الاقتراب مما يرنو إليه العلامة الآملي من نتائج المبنى الكلامي لولاية الفقيه (والكلام كلّه طبعا بناءا على المسلك الثاني الذي مرّ لكلامية هذه المسألة) وعليه أقول:
إن قيمة ما طرحه الإمام الخميني(قدس سره) لا يكمن في كون ولاية الفقيه من مسائل علم الكلام بالمعنى الفني، بل في أمر آخر هو طبيعة الاستدلال العقلي الواضح على هذه الولاية. فالإمام الراحل(قدس سره) قدّم ولاية الفقيه كمسلّمة وبديهية لكل من عرف عقائد الإسلام وأحكامه، وبيّن بداهتها هذه من خلال ما ذكره وبيّناه سابقا بحيث أن من يتصور تلك المقدمات الواضحة التي طرحها الإمام(قدس سره) فإنه سيصل إلى قناعة بهذه الولاية وبالتالي إلى وجوب طاعة الفقيه وذلك من دون الحاجة إلى الاستعانة بنص شرعي خاص يتوقف اعتباره وفهم دلالته على الفقاهة والاجتهاد.
وهذا يعني أنه يمكن للمكلّف أن يعلم ويتيقن بحقانية ولاية الفقيه ووجوب اتباع الولي الفقيه من دون أن يمرّ عبر قناة الفقيه المقلّد لأنه من الثابت في فقهنا الإسلامي أن قطع المكلف لا سيّما إذا كان قائما على أسس موضوعية حجة عليه ومعذِّر له أمام الله تعالى.
فمن قام عنده الدليل العقلي الموضوعي يصح له أن يأخذ بالنتيجة المترتبة عليه من دون استناد إلى تقليد فقيه ولهذا أمثلة في التشريع الإسلامي فأصل وجوب تقليد المكلّف للمرجع الفقيه لا يقوم على فهم الآيات والروايات إذ هو يحتاج إلى تخصص في ذلك، كما أنه لا يصح أن يعتمد على رأي فقيه، فمن غير المقبول علميا أن يكون التقليد دليلا على التقليد بل إن تقليد المكلف للفقيه يقوم على أساس دليل عقلي هو وجوب رجوع غير المتخصص إلى المتخصص أو كما يعبّر رجوع الجاهل إلى العالم وهو ما قام عليه البناء الاجتماعي وسيرة العقلاء.
وكما الحال في وجوب التقليد على المكلّفين من حيث إنه يقوم بين المكلّف والمرجع من دون واسطة سوى الدليل العقلي. كذا الحال في وجوب طاعة الولي من حيث إنه يقوم بين المكلّفين والولي من دون واسطة سوى الدليل العقلي.فكما جرّت باء الدليل العقلي المكلّف لتقليد المرجع لا بد أن تجر باء الدليل العقلي أيضا المكلّف لإطاعة الولي. فالباء طالما هي الباء إما أن تجر دائما وإما أن لا تجر أبدا.
ولعل النتائج العملية الكبيرة لطرح الإمام(قدس سره) هذا يتحقق حينما تتربى الأمة اعتمادا على ذلك الدليل العقلي على وجوب طاعة الولي كما تربّى المجتمع المتدين على وجوب التقليد.
عندها تتطور علاقة الأمة بالفقيه مع المحافظة على علاقة المقلّد بالمرجع إلى علاقة لها به كولّي لأمرها ينفّذ أحكام الله فيها.وهذا التطور في علاقة الأمة بالفقيه هو سرّ من أسرار قيام ثورة الإسلام في إيران وسرّ من أسرار انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان.
1- مجلة الرصد الثقافي العدد 43 أيار 1994 بيروت ص 23
2- المرجع السابق ص 22/23
3- شروح الشمسية، منشورات شمس الشرق، بيروت ص39
4- أنوار الهداية في التعليق على الكفاية. ج1ص33
5- بركات أكرم، المباني الكلامية لولاية الفقيه، ص 40 45.
6- الصدوق، كمال الدين ص 484
7- سورة الأنفال الآية60.
8- المرجع السابق ص33
9- المرجع السابق ص45 46