ثورة الإمام الخميني (قدس سره)
قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه﴾[1].
طالما كان اليهود يبحثون عن أرض يقيمون عليها دولتهم، واستقرّ خيارهم على فلسطين، حاولوا استمالة السلطان العثماني لتحقيق مشروعهم، فأهدوه مبالغ طائلة من الذهب، وعزّزوا وجودهم في فلسطين.
نشبت الحرب العالميّة الأولى لتنتهي الدولة العثمانيّة من منطقة الشرق الأوسط.
دخل الاحتلال البريطاني العراق غازياً، تصدّت له الحوزة العلميّة الشيعيّة التي طالما كانت مظلومة في عهد الدولة العثمانيّة، لكنّها أبت أن تتعامل بأيّة إيجابيّة من المحتل البريطانيّ، بل وقفت وحاربته بثورة عُرفت بثورة العشرين لأنّها حصلت عام 1920 للميلاد.
لم تستطع الحوزة أن تنجز انتصاراً عسكرياً في العراق، لكنّها سجّلت وقفة عزٍّ أمام المحتل الأجنبيّ. إلاّ أنّ الهزيمة العسكريّة كان لها انعكاس على الحوزة العلميّة التي اعتبرت أنّ الاحتلال البريطانيّ ليس عسكرياً فقط، بل هو غزو ثقافيّ، فصدّرت تحريمات عديدة في التعاطي مع الوسائل والأساليب الناتجة عن ذلك الاحتلال، فالموقف العامّ كان موقف المقاطعة خوفاً على الجيل الجديد.
لكنّ هذا الموقف لم يواكب ببرنامج آخر يواكب التطوُّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، ممّا أدّى إلى نوعٍ من انزواء الحوزة عن المجتمع.
وامتدّت هذه الحالة عشرات السنين أصبح فيه المجتمع المسلم مجتمعاً متفرّقاً، منهزماً من الداخل مستلباً للخارج.
في تلك البيئة نشأ المفكِّر الإسلاميّ الرائد والمرجع الدينيّ المتميِّز الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي رأى أنّه لا بدّ من إحداث فجوة في وسط هذا الجدار، فعمل على تأسيس حزبٍ يربِّي كوادر لتقوم في المستقبل بعمليّة التغيير، وذلك بعد قراءة لتجارب إسلاميّة أخرى، إلاّ أنّ ما أدهشه وأثّر في حياته غاية التأثير هو ما واكبه من خروج رجل من "قم" المشرَّفة صنع ما كان عند السيد الشهيد الصدر حلماً ممّا دفعه للقول فيه: ذوبوا في الإمام الخمينيّ كما ذاهب هو في الإسلام.
لقد واكب الشهيد الصدر (قدس سره) الإمام الخمينيّ (قدس سره) منذ اعتلى المنبر في الستينات ليتحدَّث عن مشروع الأمّة الجديد الذي أعلن أعمدته الثلاثة وهي:
1- المعتمد في المشروع هو الله تعالى، فمن الناس النصرة ومنه تعالى النصر.
2- الهدف من المشروع صناعة دولة إسلاميّة في إيران تكون أمّ القرى، وتقوم على أسس الإسلام المحمديّ الأصيل.
3- أعداء المشروع ثلاثة:
- تكتيكاً: الشاه.
- سياسياً: أمريكا.
- وجودياً: إسرائيل.
وقد أسهب الإمام في حركته ونهضته في توضيح هذه الأعمدة الثلاثة.
العمود الأوّل هو كون المعتمد في النهضة هو الله تعالى، كان الإمام (قده) يترجمه إلى مبادئ في الحركة العمليّة وذلك من خلال تعزيز القيم الآتية:
1- إنّ المطلوب من الناس أن ينصروا الله تعالى بتأدية تكاليفهم المطلوبة إلهيّاً منهم، وهم ليسوا مطالبين بتحقيق النتائج، على قاعدة ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾[2]لا إن تنتصروا... كان قدّس سرّه يقول: "كلّنا مأمورون بأداء التكليف والواجب، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج".
2- عدم الخوف من غير الله طالما أنّ الناس يؤدّون تكاليفهم الإلهيّة. كان قدّس سرّه يقول: يجب أن لا نخاف من الحرب والإرعاب أبداً، لماذا نخاف؟! نحن مكلَّفون، ونعمل بتكليفنا، ونحن محقّون، وعندما نكون محقّين لماذا نخاف؟!
3- الإيمان بالمدد الإلهيّ، والاهتمام بالمعنويات والتوجّه نحو الغيب، كان قدس سرّه يقول: "ألم يحن الوقت للذين لم يهتموا بالمعنويات ولم يؤمنوا بالغيب أن يستيقظوا من غفلتهم".
4- أن يُرى الله تعالى مُوجداً ومحرّكاً للكمالات المتحقّقة من خلال حركة الناس العاملين بالتكليف غير الخائفين من سوى الله، المؤمنين بالمدد الإلهيّ، لذا كان (قدس سره) حينما ترتفع أصوات التكبير في سماء الثورة يقول: "هذه الأصوات المرتفعة التي تسمعونها هي صوت الله، إنّها قدرة الله، هذه الانتفاضة تحقّقت بقوّة الله". وكان يقول: "ألم يكن انتصار هذا الشعب هو الرعب الذي ألقاه الله في قلوب هؤلاء الطغاة".
العمود الثاني للثورة، هو صناعة دولة إسلاميّة محمديّة أصيلة تكون أمّ القرى للمسلمين والمستضعفين . وقد كان الإمام الخميني (قدس سره) يؤكّد على أنّ ذلك هو الأولويّة في حاجات الأمّة.
وفي هذا الإطار حدّثنا الشيخ محمد جواد مغنية "ره" عن حادثة لطيفة حصلت معه حينما دخل العدوّ الإسرائيليّ عام 1978 محتلاًّ جزءًا من الأراضي اللبنانيّة، حينها زار الشيخ مغنية "ره" النجف المشرّفة، والتقى بالإمام الخميني (قدس سره) طالباً منه مساعدة أهل جبل عامل الفقراء المستضعفين الذين ازدادوا فقراً واستضعافاً بعد الاحتلال الإسرائيليّ الجديد، فكان جواب الإمام الخميني (قدس سره) له: يجب أن يسقط الشاه.
ظنّ الشيخ مغنية "ره" وقتها كما ذكر أنّ هذا الرجل ليس في رأسه إلاّ الشاه.
لم يفهم الشيخ مغنية "ره" وقتها أولويّة الإمام (قدس سره) في إنشاء دولة أمّ القرى، لذا فهو قال بعد الثورة، وما رأى من بداية عطائها: الآن فهمت ما معنى قول الإمام (قدس سره) يجب أن يسقط الشاه.
ونحن نقول للمرحوم الشيخ مغنية: أيّها الشيخ الجليل، إنّ هذا الجيل الخمينيّ اليوم كلّه فهم ما معنى قول الإمام الخمينيّ يجب أن يسقط الشاه.
العمود الثالث هو تحديد العدوّ الذي بيّن الإمام (قدس سره) أنّه يتمثّل تكتيكيّاً في تلك المرحلة بالشاه باعتباره شرطي الاستكبار في العالم الإسلاميّ، فهو المسلوب لأسياده المستكبرين، المتغطرس على المسلمين، تصوّروا أنّ الشاه رضا خان والد ذلك الشاه طرده الإنكليز من إيران. وحينما استفسر ولده الشاه محمد رضا من السفير البريطاني أجابه بوقاحة: إنّه يستمع لإذاعة برلين، ويتابع تقدّم الألمان على الخارطة، فما كان من محمّد رضا إلاّ أن ترك الإنصات للإذاعة، ورفع الخارطة عن الجدار.
العدوّ الثاني هو العدوّ السياسيّ أمريكا التي اعتبرها الإمام الخميني (قدس سره) الشيطان الأكبر، ودعا إلى عدم التعامل معها، إلاّ إذا غيّرت سياستها.
العدوّ الثالث وهو العدوّ الوجوديّ إسرائيل التي اعتبرها الإمام الخمينيّ الشيطان الأصغر وغدّة سرطانيّة يجب استئصالها من الوجود، ولا مجال لأيّة مهادنة معها. وكان الإمام (قدس سره) يحذّر من أمريكا وإسرائيل باعتبار شيطنتهما، فكان يقول: "لو أنّ أمريكا وإسرائيل قالتا: لا إله إلاّ الله، فنحن نرفض ذلك، ولا نؤمن بصحّة قولهم؛ لأنّهم يريدون خداعنا".
أمام هذين العدوين دعا الإمام الخمينيّ (قدس سره) إلى وحدة الأمّة معتبراً أنّ الوجهة التي يجب أن تكون البوصلة الأساس للأمّة هي القدس. وفي إطار ذلك أعلن الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوم القدس العالميّ.
لقد استطاع الإمام الخمينيّ (قدس سره) في نهضته أن يصنع ثورة الحقّ في إيران ثمّ دولة الإسلام التي هي اليوم بحقّ أمّ القرى للمسلمين. وما المقاومة الإسلاميّة في لبنان إلاّ نبتة زرعها الإمام الخمينيّ (قدس سره) لتنمو ويفيء ظلالها على مجتمع المقاومة العزيز وعلى الوطن والأمّة.
لقد استطاع الإمام الخمينيّ (قدس سره) في نهضته أن يعيد انتصار الذات المهزومة في داخلها على الذات نفسها. وما الصحوات التي انطلقت في العالم الإسلاميّ إلاّ استجابة بوعي أو دون وعي لهدير النهضة الخمينيّة.
لقد استطاع الإمام الخمينيّ (قدس سره) في نهضته أن يرينا ظهور دولة العدل الإلهيّ أقرب فأقرب، لنعمل جاهدين في التمهيد لها، عسانا نكون من أنصار وأعوان مَنْ كانت طلعته الرشيدة نصب عيني الإمام الخمينيّ (قدس سره) في كلّ حركة قام بها.
[1]سورة إبراهيم، الآية 5.
[2]سورة محمد، الآية 7.