امرأة فرعون
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
في أجواء يوم ولادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الذي اختاره الإمام الخميني (قدس سره) موعداً سنوياً بعنوان اليوم العالمي للمرأة أتحدّث عن امرأة اعتبرها الله تعالى في كتابه الكريم نموذجاً وقدوة ومثلاً يحتذى به لا للنساء، فقط بل لكل المؤمنين والمؤمنات "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ" إنها آسية بنت مزاحم التي ورد في شأنها الحديث النبوي الشريف: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون".
كانت آسية تعيش حياة يتمناها أكثر النسوة فهي: زوجة الملك فرعون، تعيش في قصره الكبير في ثراء وفير، بين خدم وحشم كثير.
ويمكن مقاربة الرفاهية والدعة والثراء التي كانت تعيش في ظلّه آسية من خلال ما عرضه القرآن الكريم عن مدى مُلك فرعون وثرائه، إذ قال عزّ وجلّ: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾.
إن فرعون في هذه الآية يقارن بينه وبين نبي الله موسى (عليها السلام) من خلفية ترى الكمال في الملك والسلطة والمال والثراء، وهو يراهما في نفسه، ولا يراهما في النبي موسى وأخيه نبي الله هارون عليهما السلام وهذا الأمر طرحه أمير المؤمنين (عليها السلام) في نهج البلاغة قائلاً: "ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون، وعليهما مدارع الصُّوف، وبأيديهما العِصيُّ، فشرطا له –إن أسلم- بقاء مُلكِهِ، ودوام؛ فقال: "ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ، وبقاء الملك؛ وهما بما ترون من حال الفقر والذلّ، فهلاّ أُلقي عليهما أساورةٌ من ذهب؟ إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصّوف ولبسه! ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقبان، ومغارس الجنان، وأن يحشُر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء واضمحلت الأنبياء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولكن الله سبحانه جعل رُسُله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأُ القلوب والعيون غنىً، وخصاصةٍ تملأُ الأبصارَ والأسماعَ أذىً.
نعود إلى آسية زوجة فرعون التي كانت تعيش مع كل الثراء والنعم والدعة والراحة والجاه في قصر فرعون الذي أحاطه بسور سميك يحجبه عن الله تعالى.
ترى كيف اخترق الإيمان ذلك السور الضخم وجدران ذلك القصر السميكة ليدخل قلب هذه المرأة؟
لقد حصل ذلك بسبب وجود رجل مؤمن في داخل قصر فرعون اسمه حزقيل، وهو الذي ورد فيه "الصديقون ثلاثة علي بن أبي طالب، وحبيب النجار، ومؤمن آل فرعون..."
وفي رواية أخرى "الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب صاحب ياسين وعلي بن أبي طالب وهو أفضل الثلاثة.
وقد ورد عن ابن عباس في قوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ" قال(رض): نزلت في حزقيل آل فرعون، وحبيب النجار، وعليّ بن أبي طالب، وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم سبقاً".
لقد كان حزقيل من آل فرعون، ويقال إنه كان خازنه، وهو قد كتم إيمانه فترة طويلة جداً، وكانت لديه عائلة مؤمنة بالله تعالى تشاطره في كتمان الإيمان.
وكانت زوجته ماشطة لبنات فرعون ولزوجته آسية، وفي مسألة دخول الإيمان إلى قلب آسية ورد أنه بينما كانت زوجة حزقيل تمشط ابنة فرعون وقع مشطها فقالت: بسم الله، قالت بنت فرعون: أبي؟ قالت: لا، بل ربي وربك ورب أبيك، فأخبرت فرعون فدعا بها وبولدها، قال: من ربّك؟ قالت: إن ربي وربّك الله.
فأمر بتنّور من نحاس فأحماه فدعا بها وبولدها، فقالت: إن لي إليك حاجة وهي أن تجمع عظامي وعظامي ولدي فتدفنها.
تأثرت آسية بإيمان هذه المرأة، فآمنت، وقرّرت التصدي للكفر من داخل القصر وقد ورد أن فرعون دخل عليها بعدما قتل الماشطة، فقالت له: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا فقال لها: لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبك؟
فقالت: ما اعتراني جنون، بل آمنت بالله ربي وربك ورب العالمين.
حاول فرعون أن يرجعها عن عقيدتها فأبت، فأمر بها حتى مُدَّت بين أربعة أوتاد، ثم لا زالت تعذّب فقالت: وهي في العذاب: "رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ "
الملاحظ أنه رغم كونها في قصر عظيم تطلب من الله تعالى "بيتاً" لا قصراً؛ لأن غايتها ليست البيت، بل كانت غايتها " رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ" إنّها تريد موقع القرب من الله تعالى، إنّها مرتبةالعندية، تماماً كالشهداء فإنهم "أحياء عند ربّهم "
إنها قصة إيمان امرأة أقبلت عليها الدنيا على حساب آخرتها فتخلّت عنها لأجل آخرتها.
إنها قصة إيمان امرأة هُدّدت بالعذاب لأجل الدين فاختارت العذاب على أن تترك دينها.
لقد أصبحت آسية نموذجاً وقدوة لكل إنسان لينطلق من انسانيته نحو الله تعالى في سلوكه في هذه الدنيا مهما كانت التضحيات.
إنها النموذج الذي أراد الله تعالى للمرأة أن تقتدي به فإذا فعلت فإنّها ستتقدم في كمالها وستدفع في تقدمها المجتمع معها.
لذا التقت آسية مع فاطمة(عليها السلام) وخديجة(عليها السلام) ومريم(عليها السلام) فكنّ أفضل النساء.