
جمع القرآن الكريم
تمهيد
قد يستدل البعض على تحريف القرآن الكريم بطريقة جمعه ببيان أن طريقة جمع القرآن تستلزم التحريف عادة، لا سيما أن بعض الروايات تفيد كون بعض الآيات القرآنية قد أخذت من صحابي واحد دون غيره. لذا فمن الجدير البحث عن جمع القرآن الكريم.
جمع القرآن الكريم
تمهيد
قد يستدل البعض على تحريف القرآن الكريم بطريقة جمعه ببيان أن طريقة جمع القرآن تستلزم التحريف عادة، لا سيما أن بعض الروايات تفيد كون بعض الآيات القرآنية قد أخذت من صحابي واحد دون غيره. لذا فمن الجدير البحث عن جمع القرآن الكريم.
معنى الجمع
إن الدخل السليم في كل بحث هو تحديد معنى المصطلح المبحوث عنه، لذا فمن المفروض أن نبحث عن المراد من جمع القرآن، وهنا تبرز عناوين الثلاثة للجمع ندرس كل واحد منها منها بشكل منفرد وهي:
1- حفظ القرآن عن ظهر قلب أي استظهاره
2- تدوين القرآن
3- جمعه بين اللوحين
الأول: استظهار القرآن
إن جمع القرآن بمعنى استظهاره وحفظه قد تمَّ في عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) بدون شك وريب، فقد كان عدد الحافظين للقرآن الكريم أكثر من أن تحصى أسماؤهم، فقد قتل في عهد النبي(صلى الله عليه وآله) سبعون صحابيا ً من حفظة القرآن في بئر معونة، كما أنه قتل في عهد آبي بكر يوم قتال مسيلمة الكذَّاب سبعون صحابيا ً من حفظة القرآن، بل في رواية اخرى أن عددهم كان أربعمائة صحابيا ً.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يؤكد على حفظ القرآن الكريم حتى أن المرأة المسلمة كانت ترضى أن يكون مهرها تعليم بعض سور القرآن بل سورة واحدة منه، وقد ورد أن مسجد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان عامرا ً بتلاوة القرآن يضجّ بأصوات حفّاظه فأمرهم الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.
الثاني: تدوين القرآن
توجد شواهد كثيرة تؤكد أن القرآن الكريم قد دوِّن في عهد النبي(صلى الله عليه وآله) في أدوات مختلفة، وقبل ذكر بعض تلك الشواهد نذكر جملة من أدوات التدوين في عصر النبي(صلى الله عليه وآله)
أدوات التدوين
- العسيب: وهو جريدة النخل بعد تجريده من الخوض يُكتب على الطرف العريض منه
- اللَّخفة: جمعها لِخاف وهي صفائح الحجارة الرقاق
- الرقعة: وتكون من جلد أو ورق
- الكتف: وهو عظم بعير أو شاة، إذا جفَّ كتبوا عليه
- القتب: وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليحمل عليه، كان يستعمل لنقش الكتابة عليه.
- الحرير
الشواهد على تدوين القرآن في عصر النبي(صلى الله عليه وآله)
1- حديث الثقلين: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ً كتاب الله وعترتي أهل بيتي) فلفظ "كتاب" الوارد في هذا الحديث يتبادر منه معنى الصحيفة ولا يصح إطلاقه على ما في الصدر فقط.
2- ما رواه أهل السنة عن قتادة قال: "سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، معاذ بن جبل، زيد بن ثابت، وأبو زيد ونحن ورثناه" فمن الواضح أن الجمع في هذه الرواية لا يراد منه الحفظ والاستظهار، إذ لا خصوصية لهؤلاء الأربعة المذكورين لأن حفاظ القرآن كانوا كثيرين في عهد النبي(صلى الله عليه وآله).
3- ما من أن روي من الإمام علياً(عليه السلام) قد جمع القرآن بثلاثة أيام بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)، فهذا يشهد أن القرآن قد كتب في عهد النبي(صلى الله عليه وآله)، وأن عليا ً قد جمعه بين لوحين، وإلا فمن البعيد جدا ً القول بأنه كتبه في ثلاثة أيام.
4- ما رواه البخاري عن البرَّاء قال: لكا نزلت ( ألا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) قال النبي(صلى الله عليه وآله): أدعُ لي زيدا ً وليجئ باللوح والدواة والكتف ( أو الكتف والدواة) ثم قال(صلى الله عليه وآله): (لا يستوي القاعدون....) فبهذا يشهد بأن النبي(صلى الله عليه وآله)كان يأمر بكتابة القرآن ويهتم به اهتماما خاصا ً حيث يأمر يأمر بكتابته بمحضره المبارك.
5- رواية قصة إسلام عمر بن الخطاب وهي أن رجلا ً من قريش قال له أختك قد صبأت (أي خرجت من دينك)، فرجع ولطم أخته لطمة شجّ بها وجهها، فلما سكت عنه الغضب فإذا صحيفة في ناحية البيت فيها (بسم الله الرحمن الحيم سبَّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) إلى قوله (إن كنتم مؤمنين) واطلع على صحيفة أخرى فيها (يسم الله الرحمن الرحيم طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) إلى قوله (له الأسماء الحسنى) فأسلم بعدم فهم بلاغة تلك الآيات.
أقوال بعض علماء السنة في تدوين القرآن
- ذكر الحارث بن أسد في كتاب فهم السنن: (كتابة القرآن ليست بمحدثة، فأنه(صلى الله عليه وآله) كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا ً في الرقاع والأكتاف والعسب...كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)
- قال الشيخ محمد الغزالي: (فلما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله محفوظا ً في الصدور، وكان ذلك مثبتا ً في السطور.)
- قال الباقلاني: (وما على جديد الأرض اجهل ممن يظن بالنبي(صلى الله عليه وآله) أنه أهمل القرآن أو ضيَّعه مع أنه كان له كُتاباً أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين و الأنصار.
الإمام الصادق(عليه السلام) يؤكد تدوين القرآن في عهد النبي(صلى الله عليه وآله)
فقد روى علي بن إبراهيم أبي بكر الحضرمي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): يا علي إن القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس، فخذوه واجمعوه، ولا تضيعوه كما ضيّعت اليهود التوراة، وانطلق علي(عليه السلام) فجمعه في ثوب أصفر وختم عليه.
الثالث جمع القرآن بين اللوحين
وروى العياش في تفسيره عن الإمام علي(عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أوصاني إذا رأيته في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله، في جرائد، وهكذا حدث فحين أتَّم الإمام علي(عليه السلام) تجهيز رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتكفينه ودفنه انصرف إلى تنسيق تلك القاع والأكتاف والجرائد ونحوها وتنظيمها وترتيب سورها وجعلها كتابا ً واحداً.
وقد ذكر الكليني: أن عليا ً قال عندما جمع القرآن:" هذا كتاب الله.... وقد جمعته من اللوحين" وعن محمد بن سيرين قال: لما توفيّ النبي(صلى الله عليه وآله) أقسم علي(عليه السلام) أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف. وحول هذا المصحف الذي جمعه الإمام علي(عليه السلام) تقدم في المحاضرة الثانية أنه كتبه بحسب ترتيب النزول، وذهب بعضهم إلى أنه كتب على نفس النحو الموجود الآن وعلى كل حال فمن المؤكَّد أن أول من قام بجمع القرآن بين لوحين هو الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)
روايات أهل السنة في جمع القرآن بين اللوحين
تضاربت الروايات الواردة في كتاب أهل السنة حول أول من جمع القرآن ونعرض منها هذه النماذج:
1- أبو بكر أول من جمع القرآن فقد رووا عن علي(عليه السلام):" أعظم الناس في المصاحف أجرا ً أبو بكر إن أبا بكر أول من جمع بين اللوحين". ورووا أيضا ً أنه لما قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت فقال: اجلسا على باب المسجد، فلا يأتينكما أحد بشيء من القرآن تنكر أنه يشهد عليه رجلان إلا أثبتهما، وذلك لأنه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمعوا القرآن.
2- عمر أول من جمع القرآن: فقد رووا أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله، فقيل: كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله، وأمر بالقرآن فجمع، فكان أول من جمعه في مصحف.
3- عثمان أول من جمع القرآن: واستنكر محمد ابن سيرين الرواية السابقة وقال: قتل عمر ولم يجمع القرآن.
4- ورووا حول أول من جمعه أن عمر مات دون أن يكتمل جمع القرآم فقام عثمان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيئا ً فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك حتى يشهد عليه شهيدان...
النتيجة
يلاحظ عند قراءة الروايات السابقة المروية من كتب علماء أهل السنة التضارب الواضح في أول من جمع القرآن. فإذا غضضنا النظر عن الروايات القائلة أن علياً(عليه السلام) هو أول من جمع القرآن فإن الروايات الأخرى حالها في التهافت واضح فبعضها يفيد أن أبا بكر أول من جمع القرآن بين اللوحين وبعضها أن عمر هو أول من جمعه بينما الآخر يفيد أن عثمان هو أول من جمعه ونحن لن ندخل هنا محاكمة هذه الروايات واحدة واحدة، فطالما أن القرآن قد دوّن في عهد النبي(صلى الله عليه وآله) فلا مانع من أن يكون كل واحد من الخلفاء قد استنسخ ما هو مكتوب من القرآن.
توحيد المصاحف
نعم ورد أن عثمان رأى الناس قد اختلفوا في قراءة القرآن فقام باستنساخ نسخة واحدة على لغة قريش التي نزل بها القرآن الكريم وألغى بقية النسخ.
فقد ورد أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزغ حذيفة اختلافٌ في القراءة، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فقام عثمان وجمع المسلمين على قراءة واحدة ومنع سائر القراءات بعد أن جمع النسخ القرآنية من الناس وأحرقها على قول، وقيل سلقها بالماء الحارّ والخل.
وقد ذكر بعض المحققين أن هناك هدفا ً أخر لعثمان في عمله هذا وهو أن بعض الصحابة كان قد كتب في مصحفه تفاسير بعض الآيات وأسماء من نزلت فيهم الآيات وأسماء من نزلت فيهم الآيات القرآنية كبعض بني أمية، فاستاء عثمان من ذلك وجمع هذه النسخ وألغاها.
وعلى كل حال فإن ابن طاووس ذكر أن النسخة التي اعتمدها عثمان كانت بمشورة ورأي الإمام علي (عليه السلام) ولعل ما يؤيد هذا رواية سويد بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول:" أيها الناس إياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرَّاق القرآن، فوالله ما حرقها إلا من ملأ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها......"
والنتيجة إن القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي أنزله الله تعالى على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله) بدون نقيصة ولا زيادة وقد جاءنا متواتراً دون شك فيه ولا ريب يعتريه.