فاطمة الشهيدة

فاطمة عليها السلام الشهيدة

نحاول مقاربة هذا المعنى من جهتين:
الأولى: ما طرحه القرآن الكريم من معنى الشهادة.
الثانية: المعنى المعروف للشهيد بكونه مَنْ قدَّم نفسه في سبيل الله.

فاطمة عليها السلام الشهيدة

نحاول مقاربة هذا المعنى من جهتين:
الأولى: ما طرحه القرآن الكريم من معنى الشهادة.
الثانية: المعنى المعروف للشهيد بكونه مَنْ قدَّم نفسه في سبيل الله.

المعنى القرآنيّ للشهادة
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء 3.

﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 4.

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا 5.

هناك آيات قرآنيّة أخرى حول الشهادة اكتفيت بهذه الثلاث لكون الأولى تتحدّث عن أنبياء التوراة الذين رأسهم النبيّ موسى (عليه السلام)، والثانية تحكي قول النبيّ عيسى (عليه السلام)، والثالثة تخاطب خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، وتصفهم جميعهم بالشهداء.

والملاحظ في الآية الأولى أنّها تتحدّث عن ثلاثة أصناف من الشهداء:
الأوّل: النبيّون.
الثاني: الربانيّون.
الثالث: الأحبار.


والأحبار هم علماء الشريعة، وبالتعبير السائد هم الفقهاء أمّا الربّانيون، فهم درجة وسطى بين النبيّين والأحبار وهم ما ينطبق في الدين الإسلاميّ على الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) والسيّدة الزهراء (عليها السلام) ويتمثّل دور الشهادة المشترك بين الأصناف الثلاثة، كما يقول "الشهيد الصدر" بثلاثة أمور:
الأوّل: استيعاب الرسالة السماويّة والحفاظ عليها، لقوله تعالى:
﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء 6.
الثاني: الإشراف على ممارسة الناس لدورهم في خلافة الله، وإعطاء التوجيه الرساليّ المناسب لهم.
الثالث: التدخّل لمقاومة الانحراف واتّخاذ كلّ التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة" 7.

فالشهادة هي معرفة عالية بالأهداف الإلهيّة التي يريدها الله تعالى لمسيرة البشريّة، وهي معرفة وإشراف على واقع الأمّة يقتضي التوجيه الصحيح والسعي لمنع الانحراف.

وهذا ما نلحظه جليًّا في سيرة السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).

أمّا استيعاب الرسالة، فهي عالمة غير معلَّمة، كان لها علاقة خاصّة مع القرآن الكريم، وهي التي يروى عنها قولها (عليها السلام): "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: تلاوة كتاب الله، والنظر في وجه رسول الله، والإنفاق في سبيل الله" 8، وهي التي قالت في خطبتها في المسجد النبويّ عن القرآن الكريم: "لله فيكم عهد قدّمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم، كتاب الله، بيِّنةٌ بصائره، وآيٌ منكشفة سرائره، وبرهانٌ متجلِّية ظواهره، مديمٌ للبرية استماعُه، وقائد إلى الرضوان أتباعه، ومؤدٍّ إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان حجج الله المنيرة، ومحارمه المحرمة، وفضائله المدوّنة، وجمله الكافية، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيناته الجالية..." 9.

أمّا توجيهها الرساليّ للناس، فهي التي كانت توجّه المؤمنات في خطّ الرسالة " 10. وهي التي كانت تنشر أحاديث أبيها في الناس حتى سمِّيت بالمحدِّثة.

أمّا تدخّلها في مقاومة الانحراف، فهي حينما رأت ما حلّ بالبناء الذي بناه والدها على مدى ثلاث وعشرين سنة، بذلت قصارى جهدها لمنع هذا الانحراف. ففي سبيل ذلك:
أ‌- واجهت القوم في بنيها.
ب‌- خرجت إلى المسجد النبويّ مع ثلّة من النساء لتبيِّن الحقّ للناس، وخطبت عصماء بيّنت فيها من هو أحقّ بالخلافة والولاية على الناس، فقالت: "أنا فاطمة وأبي محمّد...إن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، بلغ النذارة صادعًا بالرسالة...داعيًا إلى سبيل ربِّه بالحكم والموعظة الحسنة، يجذ الأصنام...حتى انهزم الجمع، وولّوا الدبر، وحتى تفرى الليل عن صبحه...ونطق زعيم الدين، وهدأت فورة الكفر...وفهتم بكلمة الإخلاص. وكنتم على شفا حفرة من النار، فأنقذكم منها نبيّه، تعبدون الأصنام، وتستقسمون بالأزلام...تشربون الرنق" 11، وتقتاتون القدة، أذلّة خاشعين تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم فأنقدكم بنبيِّه محمّد (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيّا والتي...( كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ)" 12، أو نجم" 13قرن الضلالة، أو فغرت " 14فاغرة المشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها" 15بأخمصه" 16، ويخمد لهبها بحدّه، مكدودًا في ذات الله، قريبًا من رسول الله، سيّدًا في أولياء الله، وأنتم في بلهنية" 17 آمنون، وادعون فرحون، تتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال على الأعقاب، حتى أقام الله بمحمّد (صلى الله عليه وآله) عمود الدين" 18.

لقد بيّنت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها هذه دور أبيها النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تغيير الواقع الاجتماعيّ وانتقاله من القعر إلى القمّة.

ثمّ بيّنت أنّ تحصين هذا الواقع من الضلالة والشرك كان من خلال استعانة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قارنت بينه وبين المخاطبين من خلال مقارنة مواصفات من الأولى بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يمتاز في خطبة الزهراء (عليها السلام) هذه بالمواصفات التالية:
1- الشجاعة العالية.
2- التصميم الكامل لإنجاز إرادة الله تعالى.
3- الكدّ في ذات الله.
4- القرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
5- السيادة في أولياء الله.

فهو إذًا القويّ تصميمًا وشجاعة المقبل على الله تعالى في عمله القريب من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، السيّد في أولياء الله.

بينما يمتاز المخاطبون بالمواصفات الآتية:
1- حبّ الدعة والأمن.
2- التكبّر.
3- تتبّع أخبار لتغيير المواقف ليكونوا مع الأقوى.
4- الجبن.

وبالمقارنة من يكون جديًّا بالخلافة؟!!.

ج- خرجت مع الإمام عليّ (عليه السلام) تذكّر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببلاغات النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) في شأن الحاكميّة بعده.

ولمّا بيّنت من ذلك أرادت أن تبقى شاخص الحقّ في المستقبل الآتي عبر البكاء الرساليّ، ومعلم بيت الأحزان، والصلاة عليها سرًّا، وإخفاء قبرها، ليكون عنوان مظلوميّتها مدوِّيًا في كلّ حقبات التاريخ.

لهذا كلِّه كانت شهيدة على الأمّة، وفي سبيل ذلك كلّه قدّمت نفسها في سبيل الله لتكون الشهيدة الشهيدة.


1 سورة الحديد، الآية 19.
2 المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 97، ص 195.
3 سورة المائدة، الآية 44.
4 سورة المائدة، الآية 117.
5 سورة النساء، الآية 41.
6 سورة المائدة، الآية 44.
7 الصدر، محمّد باقر، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، ط1، بيروت، العارف، 2012م، مجلد 5، ص 136-137.
8 القيوميّ، جواد، صحيفة الزهراء (عليها السلام)، ط1، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1373 هـ،ش، ص 276.
9 المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 6، ص 107.
10 أنظر: الحدائق الناضرة، تحقيق محمّد تقيّ الإيروانيّ،(لا،ط)، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، (لا،ت)، ج3، ص 297.
11 تراب في الماء.
12 سورة المائدة، الآية 64.
13 أي طلع.
14 أي فتحت
15 الصماخ ثقب الأذن.
16 أخمصه أي أخمص القدم وهو باطنها الذي لا يصيب الأرض (الطريحي, فخر الدين, مجمع البحرين, تحقيق أحمد الحسيني, ط 2, بيروت, دار إحياء التراث العربيّ, 1403هـ، ج 1، ص 704.
17 أي سعة.
18 الطبريّ، محمّد، دلائل الإمامة، تحقيق ونشر قسم الدراسات الإسلاميّة، قم، 1413هـ، ص 114-116.

  • الزيارات: 2056