الإمام عليّ (عليه السلام) الصّابر
قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[1].
روى الشيخ الكليني في كتابه الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "... أنزل الله عزّ وجلّ ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾[2]، فصبر في جميع أحواله، ثمّ بُشّر في عترته بالأئمة (عليه السلام)، ووُصفوا بالصّبر فقال جلّ ثناؤه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[3].
تفيد هذه الآية أنّ:
1- الإمامة منصب إلهي ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً﴾، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في آية أخرى هي قوله تعالى في خطابه للخليل إبراهيم (عليه السلام): ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[4].
2- إنّ دورهم لا يقتصر على التعليم والإرشاد وإرائة الطريق كما هو الشأن الأساس للأنبياء والرّسل (عليه السلام)، بل مهمّتهم الهداية.
3- إنّ هذه الهداية هي بأمر من الله، لا بأمر من النّاس، فالمحرِّك لهم والدّافع لهدايتهم، والهدف هو الله تعالى، وليس النّاس، وهذا ما أكّده الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: " إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّ وجلّ إمامان: قال الله تعالى: وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا، لا بأمر النّاس، يُقدّمون أمر الله قبل أمرهم، حكم الله قبل حكمهم. قال: "وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار" يُقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ"[5].
4- إنّ سبب موهبة الله تعالى الإمامة الهادية هي الصّبر، " لَمَّا صَبَرُوا " إضافة إلى الإيمان واليقين" وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ".
والآية وإن كانت في مقام الحديث عن بني إسرائيل، إلّا أنّها ليست مختصّة بأنبيائهم، بل هو بيان لصفات القائد الإلهي بأنّه مهما اعترضته من شدائد فإنّه يبقى بيقينه وإيمانه صامداً مقاوماً، وصبره المنطلق من اليقين هو الذي يؤهّله لهذه القيادة.
من هنا فحينما نريد أن نعدّ انفسنا للتمهيد لصاحب العصر والزمان (عج) انسجاماً مع الدعاء: "اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدّعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك"[6]، علينا أن نعلم أنّ مفتاح القيادة الإيمان اليقيني والصّبر المسلكي.
أشكال الصّبر:
وهذا الصّبر والثّبات له أشكال وأنواع منها:
1- الصّبر على التكليف والطاعة
2- الصّبر على الاستفزاز.
3- الصبر على المصائب.
عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " يا حفص، إنّ من صبر صبر قليلاً، وغنّ من جزع جزع قليلاً، ثمّ قال: عليك بالصّبر في جميع أمورك، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) فأمره بالصّبر والرّفق، فقال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾...فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها...ثمّ كذّبوه ورموه... فألزم النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه الصّبر، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه، فقال: قد صبرتُ في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾، فصبر النبي (صلى الله عليه وآله) في جميع أحواله، ثمّ بُشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصّبر، فقال جلّ ثناؤه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾، فعند ذلك قال (صلى الله عليه وآله): الصّبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عزّ وجلّ ذلك له، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾[7].
عليّ نموذج الإمام الصابر الموقن
1- الصّبر على التكليف
لما أخبر النبيّ جبرئيل عليه السّلام بأمر اللّه في ذلك و وحيه و ما عزم له من الهجرة، دعا رسول اللّه علي بن أبي طالب لوقته فقال له: يا علي، انّ الروح هبط عليّ يخبرني أن قريش اجتمعت على المكر بي و قتلي، و انّه اوحي الي عن ربّي عز و جلّ أن أهجر دار قومي و أن أنطلق الى غار ثور تحت ليلتي، و إنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت صانع؟
فقال علي عليه السّلام: أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ اللّه؟ قال: نعم.
فتبسّم علي ضاحكاً و أهوى الى الأرض ساجدا شكرا لما أنبأه رسول اللّه به من سلامته، فكان علي-صلوات اللّه عليه-أوّل من سجد للّه شكرا، و أوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الامّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
فلمّا رفع رأسه قال له علي عليه السّلام: امض بما امرت، فداك سمعي و بصري و سويداء قلبي، و مرني بما شئت... و إن توفيقي الا باللّه... فقال له: فارقد على فراشي و اشتمل ببردي الحضرمي، ثمّ اني اخبرك يا علي أن اللّه تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم و منازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، و قد امتحنك يا ابن عم و امتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله ابراهيم و الذبيح اسماعيل عليهما السّلام، فصبرا صبرا، فان رحمة اللّه قريب من المحسنين، ثمّ ضمّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى صدره و بكى وجدا به،و بكى علي عليه السّلام جشعا لفراق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
2- الصّبر على الاستفزاز:
"حدّثنا رسول الله ونحن معه بقُبَاء عمّا أرادت قريش من المكر به، ومبيت علي عليه السلام على فراشه، قال: أوحى الله ( عزوجل ) إلى جبرئيل وميكائيل (عليه السلام) أنّي قد آخيتُ بينكما، وجعلتُ عُمرَ أحدكما أطول من عُمرِ صاحبه، فأيّكما يُؤثِر أخاه؟ فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: عَبدَي! ألا كنتما مِثل وليّي عليّ بن أبي طالب، آخيتُ بينه وبين نبيّي فآثره بالحياة على نفسه"[8].
وفي تفصيل الحادثة: " ولَمّا أدرَكَ [أميرُ المؤمنينَ عليه السلام] عَمرَو بنَ عَبدِ وَدٍّ لَم يَضرِبهُ، فَوقَعوا في عليٍّ عليه السلام، فَرَدَّ عَنهُ حُذَيفَةُ، فَقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله: مَهْ يا حُذَيفَةُ! فإنَّ علِيّا سَيَذكُرُ سَبَبَ وَقفَتِهِ. ثُمَّ إنّهُ ضَرَبَهُ، فلَمّا جاءَ سألَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله عن ذلكَ، فَقالَ: قَد كانَ شَتَمَ اُمّي وَتَفَلَ في وَجهي، فخَشِيتُ أن أضرِبَهُ لِحَظِّ نَفسي، فتَركتُهُ حتّى سَكَنَ ما بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ في اللّه ".[9]
3- الصّبر أمام المصيبة:
1- عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله ـ لِعَلِيٍّ عليه السلام ـ: إنَّكَ لَن تَموتَ حَتّى تُؤمَرَ، وتُملَأَ غَيظا، وتوجَدَ مِن بَعدي صابِرا[10].
2- عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله: يا عَلِيُّ، إنَّكَ لاقٍ بَعدي كَذا وكَذا. فَقالَ: يا رَسولَ اللّه، إنَّ السَّيفَ لَذو شَفرَتَينِ، وما أنَا بِالفَشِلِ ولَا الذَّليلِ. قالَ صلى الله عليه وآله: فَاصبِر يا عَلِيُّ. قالَ عَلِيٌّ عليه السلام: أصبِرُ يا رَسولَ اللّه[11].
3- عن الإمام عليّ عليه السلام ـ مِن خُطبَتِهِ المَعروفَةِ بِالشِّقشِقِيَّةِ: أما وَاللّه ِ لَقَد تَقَمَّصَها فُلانٌ وإنَّهُ لَيَعلَمُ أنَّ مَحَلّي مِنها مَحَلُّ القُطبِ مِنَ الرَّحى؛ يَنحَدِرُ عَنِّي السَّيلُ، ولا يَرقى إلَيَّ الطَّيرُ، فَسَدَلتُ دونَها ثَوبا، وطَوَيتُ عَنها كَشحا[12]، وطَفِقتُ أرتَئي بَينَ أن أصولَ بِيَدٍ جَذّاءَ[13]، أو أصبِرَ عَلى طَخيَةٍ عَمياءَ[14]، يَهرَمُ فيها الكَبيرُ، ويَشيبُ فيهَا الصَّغيرُ، ويَكدَحُ فيها مُؤمِنٌ حَتّى يَلقى رَبَّهُ! فَرَأَيتُ أنَّ الصَّبرَ عَلى هاتا أحجى، فَصَبَرتُ، وفِي العَينِ قَذىً، وفِي الحَلقِ شَجاً[15]؛ أرى تُراثي نَهبا... فَصَبَرتُ عَلى طولِ المُدَّةِ، وشِدَّةِ المِحنَةِ[16].
4- عن الإمام عليّ عليه السلام - فيما قالَهُ بَعدَ أخذِ البَيعَةِ عَلى مَن حَضَر-: قَد جَرَت اُمورٌ صَبَرنا فيها، وفي أعيُنِنَا القَذى ؛ تَسليما لِأَمرِ اللّه ِ تَعالى فيمَا امتَحَنَنا بِهِ ؛ رَجاءَ الثَّوابِ عَلى ذلِكَ، وكانَ الصَّبرُ عَلَيها أمثَلَ مِن أن يَتَفَرَّقَ المُسلِمونَ، وتُسفَكَ دِماؤُهُم[17].
سرّ صبر عليّ (عليه السلام):
عن الإمام علي عليه السلام: " ما رَأَيتُ مُنذُ بَعَثَ اللّه ُ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله رَخاءً، فَالحَمدُ للّه ِ، وَاللّه ِ لَقَد خِفتُ صَغيرا، وجاهَدتُ كَبيرا، اُقاتِلُ المُشرِكينَ، واُعادِي المُنافِقينَ، حَتّى قَبَضَ اللّه ُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله فَكانَتِ الطّامَّةُ الكُبرى، فَلَم أزَل حَذِرا وَجِلاً، أخافُ أن يَكونَ ما لا يَسَعُني مَعَهُ المُقامُ، فَلَم أرَ بِحَمدِ اللّه ِ إلّا خَيرا . وَاللّه، ما زِلتُ أضرِبُ بِسَيفي صَبِيّا حَتّى صِرتُ شَيخا، وأنَّهُ لَيُصَبِّرُني عَلى ما أنَا فيهِ أنَّ ذلِكَ كُلَّهُ فِي اللّه ِ ورَسولِهِ"[18].
وعن الإمام الصادق عليه السلام: لَمّا حَضَرَت فاطِمَةَ الوَفاةُ بَكَت، فَقالَ لَها أميرُ المُؤمِنينَ: يا سَيِّدتي ما يُبكيكِ ؟ قالَت: أبكي لِما تَلقى بَعدي . فَقالَ لَها: لا تَبكي، فَوَاللّه ِ إنَّ ذلِكِ لَصَغيرٌ عِندي في ذاتِ اللّه ِ[19].
[1] سورة السّجدة: الآية24.
[2] أنظر : الطباطائي في تفسير الميزان، ج1، ص212.
[3] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي ، ج3، ص228.
[4] سورة البقرة: الآية 124.
[5] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي ، ج1، ص216.
[6] اليس دابن طاووس، إقبال الأعمال، ج1، ص293.
[7] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي ، ج2، ص88.
[8] الشيخ الطوسي، الأمالي، ج 1، ص469.
[9] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2،ص115.
[10] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3،ص216.
[11] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3،ص216.
[12] كناية عن امتناعه وإعراضه عنها.
[13] مقطوعة، كنّى به عن قصور أصحابه وتقاعدهم عن الغزو ؛ فإنّ الجند للأمير كاليد.
[14] ظُلمة لا يُهتدى فيها للحقّ، كنّى بها عن التباس الاُمور في أمر الخلافة.
[15] القذى: ما يقع في العين فيؤذيها كالغبار ونحوه، والشَّجا: ما يَنشُب في الحلق من عظم ونحوه فيُغصُّ به، وهما كنايتان عن النقمة، ومرارة الصبر، والتألّم من الغبن.
[16] نهج البلاغة: الخطبة 3.
[17] المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج1،ص249.
[18] المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج1،ص284.
[19] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص218.