الإمام عليّ (عليه السلام) وغدير خم

الإمام عليّ (عليه السلام) وغدير خم
 
قال الله تعالى: ﴿يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالتك والله يعصمك من الناس﴾.
 
في الآية كلام خطير، فالله تعالى يطلب من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلِّغ أمراً مهمّاً تبلغ أهميته درجة هي أن عدم تبليغه ينعكس على تبليغ كامل رسالته، فلو لم يبلغه فهو لم يبلِّغ رسالته، ترى ما هو هذه الأمر الخطير؟
 
الجواب يمكن في حديث متواتر عند أهل السنة والشيعة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاله بعد عودته من حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة قبل وفاته بحوالي شهرين وعشرة أيام حينما وصل إلى منطقة الجحفة في محلّة يقال لها "غدير خم"، حيث تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة، حيث جمع الناس وخطب فيهم مبلِّغاً ما أمره الله أن يبلِّغه.
 
وقد نقل العلامة الأميني  هذه الخطبة عن ثلة من كبار علماء أهل السنّة باللفظ الآتي:
"إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد جمع الناس يوم غدير خم موضع بين مكة والمدينة بالجحفة، وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع، وكان يوماً صائفاً حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدَّة الحرّ، وأمر بجمع الرِّحال، وصعد عليها، وقال مخاطباً: معاشر المسلمين، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: اللهمّ بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"[1].
 
وقد ورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ردَّد قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" ثلاث مرّات، وفي لفظ أحمد بن حنبل أربع مرات[2].
 
وورد أنّ الشاعر حسّان بن ثابت استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقول شعراً، فأذن له (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا معشر مشيخة قريش، اسمعوا قولي بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال:
يناديهم بيوم الغدير نبيّهم           بخم وأَسمِعْ بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليّكم          فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت وليّنا             ولا تجدن منا لأمرك عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني           رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
[3]
 
إنّها ليست المرّة الأولى التي يبلِّغ فيها النبي (صلى الله عليه وآله) أنّ عليًا هو الوليّ والوصي والخليفة بعده،  فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في أكثر من موضع أكّد بوضوح أنّ الإمام عليًا (عليه السلام) هو خليفته والحاكم بعده، ومن تلك الأحاديث النبويّة المباشرة التي ذكرها علماء أهل السُّنّة في كتبهم ما يأتي:
 
1"- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخاطبًا بني عبد المطلب بعد نزول قوله تعالى:(وأنذر عشيرتك الأقربين): "إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؛ إنّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنها جميعًا...[ فقال علي بين أبي طالب (عليه السلام)] أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، [ف] قال (صلى الله عليه وآله): "إنّ هذا أخي ووصيّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا"[4].
 
2"- عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): "إنّ لكلّ نبيّ وصيًا ووارثًا، وإنّ عليًا وصيي ووارثي"[5].
 
3"- عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعليّ (عليه السلام): "أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي"[6].
 
4"- عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): "إنّ عليًا مني وأنا منه وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي"[7].
 
5"- قال (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوة"[8].
 
رغم ما تقدّم من الأحاديث وغيرها إلاّ أنّ ميزة حديث الغدير أنّه تتويجٌ عام للوصيّ والوليّ أمام الملأ الذي ورد أنّهم كانوا عددًا كبيرًا جدًا أحصاه بعضهم بمئة وعشرين ألفًا من الحجيج، فهو حفل تنصيب عام، حيث تعمَّد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يقوم بما يتناسب وقيمة هذه المناسبة فهو (صلى الله عليه وآله):
1- أمر أن يوضع منبر عال يطلّ من خلالها على الجماهير المحتشدة، فصنع له منبر من أقتاب الجمال.
2- أمر (صلى الله عليه وآله) أن يقترب الناس من بعضهم البعض في المكان الذي يُشرف عليه المنبر.
3- صلّى ركعتين قبل أن يصعد إلى المنبر.
4- أمر عليًا أن يصعد المنبر ليراه الناس، ويعرفوه بشخصه، ورفع يده بيده حتى رؤي بياض إبطيهما. وعرفه القوم أجمعون.
5- ألبس النبيُّ (صلى الله عليه وآله) الإمامَ علياً (عليه السلام) عِمَامَتَهُ.
6- نصب خيمة لتهنئة الإمام علي (صلى الله عليه وآله) بهذا المنصب الإلهي. حتّى ورد أنّ أبا بكر وعمر بن الخطاب أقبلا وهنّآ عليًا قائلين: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ[9].
 
وقد أحصى العلامة الأميني في كتابه الغدير مئة وعشرة من الصحابة المعروفين الذين نقلوا هذه الرواية.
 
دلالات حديث الغدير
هناك دلالات عميقة لحديث الغدير أركِّز على واحدة منها ألا وهي تأكيد الدين الإسلاميّ على استمرار الحاكمية الإلهيّة في المجتمع، فالإسلام ليس دينًا يقتصر على كمال الفرد، بل هو يهدي إلى كمال الفرد والمجتمع، فكما أنّ المطلوب من الفرد أن يسعى لتكامله، فإنّ المطلوب من قافلة البشرية أن تعبر طريق كمالها، لذا تعلق قسم كبير جدًا من أحكام الإسلام بالمجتمع كالأحكام المالية والجهادية والجزائية وغيرها.
 
وقد أكّد الإسلام أن سعي الإنسان لتكامل المجتمع هو الطريق الأبرز لكماله فردًا،  فسبيل الناس هو سبيل الله، وهو سبيل تكامل الإنسان، لذا فمصلحة المجتمع تقدّم عن مصلحة الفرد، وحتى يتحقّق تكامل المجتمع لا بدّ أن يقوده إنسان ذو خصائص عالية بمعرفة أحكام الله وغاياته، وببصيرته ووعيه، وبإمكاناته الإدارية ونحوها، إضافة إلى عدالته وورعه.
 
والخلاصة: أنّ الإسلام دين حكومة تحتاج إلى حاكم عالم كفؤ عادل، وإذا حكم هذا الحاكم يجب على الأمّة أن تطيعه إذًا للحاكم الإسلامي صاحب تلك المواصفات له ولاية على الناس.
 
وبما أنّ السيرة العقلائية قائمة على رجوع الناس إلى الأعلم والأكفأ والأخبر، فلا بدّ أن يكون هذا الحاكم هو الأكمل بين الناس في صفات الحاكمية.
 
من هنا كان من الطبيعي والعقلائي والمنطقي والموضوعي أن يُعلن النبي الأعظم أنّ الذي يتمتع بصفته الأكملية في الأمة بعده هو علي بن أبي طالب، فعلمه لدني، وعدالته عصمة، وكفاءته منزّهة عن أيّ خطأ.
 
- فعن علمه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعلي بابها"[10]. وعن الإمام عليّ (عليه السلام):"سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض"[11].
 
- وعن ورعه قال (عليه السلام): "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت"[12].
 
- وعن مجمع صفاته قال النبي (صلى الله عليه وآله)، حينما ورد عنه: "من أراد أن ينظر إلى آدم في خلقه، وإلى نوح في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب"[13].
 
استمرار الولاية
ولأنّ قضية الولاية تنطلق من كون الإسلام دين حكومة لا بدّ لها من حاكم هو الأكمل في العلم والكفاءة والعدالة، وبالتالي يجب على الأمّة أن تطيعه، استمرت الولاية في أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام) المعصومين الذين هم أكمل الأمة.
 
وهنا يطرح سؤال يتعلّق بسنة 329 للهجرة وهي سنة بداية الغيبة الكبرى، فهل تغيّر في ما تقدّم شيء؟!
هل لم يعد الإسلام دين حكومة؟
هل تغيّر تقديم المصلحة العامة على الخاصّة؟
هل لم يعد المطلوب من قافلة البشرية أن تسير نحو كمالها؟!
هل لم يعد المجتمع بحاجة إلى قائد هو الأكمل في علمه وكفاءته وعدالته؟
صحيح أنّ المعصوم غاب، ولكن هل غياب المعصوم يغيِّر الإجابة عن الأسئلة السابقة؟!
 
أم أنّ المجتمع لا بدّ أن يبحث عن الأكمل في تلك الصفات باعتباره المؤهّل لقيادة المجتمع في عصر الغيبة، للتمهيد المطلوب لها.
 
هذا هو ما طرحه فقهاء الشيعة، وعلى رأسهم الإمام الخميني (قده) في مسألة ولاية الفقيه، مؤكدين أنّ الإسلام ما زال في الغيبة الكبرى دين حكومة.
وما زالت أهداف الحكومة تتحقق من خلال الأكمل في صفات العلم والكفاءة والعدالة.
وما زالت الحاجة إلى أن يدرس هذا الحاكم مصالح المجتمع ليحكم في ضوئها.
 
وعليه فإنّ هذا الحاكم الفقيه الكفؤ الورع له ولاية على الأمة.
 
إنّ وعي استمرار ولاية الغدير من خلال ولاية الفقيه هو من أفضل الإحياء لعيد الله الأكبر عيد غدير خم.


[1]  الأميني، الغدير، ج1، ص8.
[2]  الأميني، الغدير، ج1، ص8.
[3]  الشريف المرتضى، الرسائل، ج4، ص131.
[4]  الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، تحقيق نخبة من العلماء، (لا،ط)، بيروت، (لا،ت)، ج2، ص 63.
[5]  ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، (لا،ط)، بيروت، دار الفكر، 1415هـ، ج42، ص 392.
[6]  المصدر السابق، ص 199.
[7]  المصدر السابق، ص 198.
[8]  البخاري، محمد، التاريخ الكبير، (لا،ط)، تركيا، المكتبة الإسلامية، (لا،ت)، ج1، ص 115.
[9]  أنظر: الأميني، الغدير، ط4، بيروت، دار الكتاب العربي، 197م، ج1، ص 282.
[10]  الصدوق، محمد، الخصال، ص 574.
[11]  ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ط1، قم، دار الذخائر، 1412هـ، ج2، ص 130.
[12]  ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، ج2، ص 218.
[13]  المفيد، محمد، الأمالي، تحقيق حسين الاستاد ولي وعلي أكبر الغفاري، بيروت، دار المفيد، ص14.

  • الزيارات: 878