الرسول الحبيب

بسم الله الرحمن الرحيم
الرسول الحبيب
" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " 1.
فطرة الإنجذاب نحو الكمال
خلق الله الإنسان لأجل أن يتكامل، لذا غرس في قلبه حبّ الكمال والإنجذاب إليه، ليدفعه ذلك أن يخطو في سبيل الكمال المطلق ليحقّق أفضل قدر من الكمال.
لذا ترى الإنسان يحبّ الجمال والشجاعة والعلم والصدق والوفاء؛ لأنّ هذه الصفات كلّها هي كمالاتٌ تجعله يحبّ من اتصف بها، فيحبّ الجميل والشجاع والعالم والصادق والوفيّ.
الحبّ أمر غير اختياري
إن أشرتُ لك نحو شخص لا تعرفه، وقلت لك: عليك أن تحبّه؟ هل تستطيع ذلك؟
إنّ التأمّل في هذا الأمر وفي أمثلة الحبّ المتقدّمة يوضح أنّ الحبّ ليس أمراً اختيارياً يفعله الإنسان ساعة يشاء، بل هو أمر قهريّ ينطلق من القلب، إلاّ أنّ له أسباباً تقرّبه من الاختيار، ألا وهي تلك الكمالات التي تحدّثت عنها ونحوها، فالجمال والشجاعة والعلم والصدق والوفاء حينما

توجد في شخص ما فإنّ الإنسان بفطرته ينجذب قلبه إليه.
تعريف الحبّ
من هنا صحّ تعريف الحبّ بأنّه انجذابُ القلب بسبب كمالٍ يلاحظه المحبّ في المحبوب.
معيار الحبّ الصحيح
إنّ هذا التعريف للحبّ لا يعني أنّ كلّ حبّ ينطلق من قلب إنسانٍ يعني انجذابه نحو كمالٍ حقيقيٍّ، فقد يتوهّم الإنسان ما ليس بكمالٍ كمالاً، فينجذب قلبه إلى صاحبه، كحال الذين يتعاطون المخدِّرات والخمر وما شاكل ذلك، بظنّهم إنّها كمالات، لذا أراد الله تعالى أن يرشد إلى معيار الحبّ

الحقيقيّ ألا وهو الكمال المطلق وهو الله تعالى وما وقع على طريق كماله.
وبرحمة الله تعالى زرع حبّه في القلوب ليكون معياراً للكمال الحقيقيّ، قال تعالى: " حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ " 2.
قال الشاعر وهو يتحدّث عن حبّه للكمال المطلق:
يقولون لي بالله هـل أنـت عاشق فقلت وهل يوماً خلوتُ من العشقِ
شربت بكأس الحبّ في المهد شربةً حـلاوتها حـتى القيامة في حلقي 3
إنّه الحبّ الذي يبقى دون نفاذ
شربـت الحبّ كأساً بعد كأسٍ فما نفذ الـشراب ولا رويـت 4
كيف نحبّ الله؟
كيف نصل إلى مرحلة الحبّ والعشق الواردة في الأبيات السابقة؟
مع أنّ الحبّ هو غير اختياري، فكيف يتفاوت الناس في حبّهم لله تعالى؟
والجواب: صحيحٌ أنّ الحبّ غير اختياري إلاّ أنّ النظر والالتفات والتأمّل إلى الكمالات تجذب قلب الإنسان، من هنا أرشدنا الإسلام أنّ نذكر صفات الله تعالى وهي صفات كمال تجذب العبد حبّاً لربّه.
إنّها الصفات التي جذبت الإمام الحسين (ع) لكربلاء، ليقول في آخر كلماته حينما كثرت عليه أعداؤه: "اللهمّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيٌ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادرٌ على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريبٌ إذا

دعيت محيط بما خلقت..." 5.
إنّها الصفات التي سار في دربها الإمام زين العابدين (ع) فقال في مناجاة المحبّين:
"إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً" 6.
إنّ مناجاة الله عزّ وجل بذكر كمالاته تجذب قلب المؤمن نحو الله تعالى حبّاً به حبّاً أوّل لا ينبغي أن يسبق أو يتقدّم عليه حبّ أيّ أحد.
المعيار الإنسانيّ للحبّ الصحيح
على قاعدة أنّ معيار الحبّ الصحيح هو الكمال المطلق وما وقع في طريقه فإنّ حبّ غير الله لا بدّ أن يكون في الله، وهذا ما أرشد إليه العديد من الأحاديث الشريفة، فعن النبي (ص) "إنّ أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله" 7.
وعلى قاعدة الحبّ في الله فإنّ الحبّ الأوّل في الله لا بدّ أن يكون حبّ أكمل الخلق عند الله تعالى، لذا ورد عن الرسول الأكرم (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما" 8.
ولأجل هذا رحم الله الناس وجعل لرسول الله (ص) من خلال صفاته الكماليّة ودّاً عند أهل الإيمان، قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا "9.

قصّة ثوبان
ظهر هذا الحبّ على أهل الإيمان الذي صفت قلوبهم فتوجّهت في الله نحو كمال المصطفى (ص)، ففي سيرة رسول الله (ص) أنّ الصحابيّ ثوبان كان شديد الحبّ لرسول الله (ص)، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغيّر لونه، ونحل جسمه، فقال (ص): يا ثوبان، ما غيّر لونَك؟

فقال: "يا رسول الله، ما بي من مرض ولا وجع، غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك حتى ألقاك، ثمّ ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك؛ لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين، وإنّي إن أدخلتُ الجنّة كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنّة، فلا أحسب أن أراك أبداً، فنزلت

الآية: " وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " 10.
ثمّ قال (ص): "والذي نفسي بيده لا يؤمننّ عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين" 11.
قصة أبي رافع
عن أبي رافع قال: "دخلت على رسول الله (ص) وهو نائم، أو يوحى إليه، وإذا حيّة في جانب البيت فكرهت أن أقتلها فأوقظه، فاضطجعت بينه وبين الحيّة حتى إن كان منها سوء يكون إليّ دونه" 12.

حبّ آل الرسول
وعلى نفس القاعدة فإنّ الحبّ الحقيقيّ في الله تعالى لا بدّ أن يتوجّه لأفضل الخلق بعد رسول الله (ص) من هنا كان رسول الله (ص) يؤكّد ربط حبّه بحبّهب أهل بيته (ع)، فعنه (ص): "من أحبّني وأهل بيتي، كنّا نحن وهو كهاتين - وأشار بالسبابة والوسطى-" 13.
وعنه (ص) وهو يشير إلى الإمامين الحسن والحسين (ع): "من أحبّني وأحبّ هذين وأحبّ أباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة" 14.
وقد كثرت الأحاديث في ربط حبّه (ص) بحبّ آله (ع) حتى أصبح حبّ أهل البيت ضرورة من ضروريات الدين، ممّا جعل أئمّة المذاهب يتبارون في التعبير عن حبّهم (ع) فها هو الشافعيّ يقول معبّراً عن ذلك المعيار للحبّ:
يا أهل بيت رسول الله حبّكم حبّ الرسول ومن بالحقّ أرسله
أجر الرسالة عند الله ودّكـم فرض مـن الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم قد أكمل الدين فيكم يوم أكمله
وأنكم بشهادات الصلاة لكم من لم يصـلّ عليكم لا صلاة له 15.
أثر حبّ الرسول
إنّ الحبّ الحقيقيّ لرسول الله (ص)كفيل بتصحيح بوصلة اتجاه الإنسان نحوكماله الحقيقيّ، فالرسول الأكرم (ص) هو حامل أعلى الكمالات الوجوديّة في عالم الإمكان،فحبّه هو حبّ لتلك الكمالات،وحبّها الحقيقيّ يدعوالإنسان أنْ يسير باتجاهها،وأن يقدّم التوجّه إليها على كلّ توجّه.
عندها سيكون رسول الله قدوته الحقيقيّة،
عندها ستكون الدنيا بنظره محطّة زرع البذور ليحصدها في الآخرة،
عندها سيرضى بقضاء الله كيفما كان،
عندها سيواكبه الله تعالى في حياته،
عندها سيشعر بالكفاية والكفاة بما قسم الله له،
عندها سيعفّ نفسه عمّا في أيدي الناس،
عندها سيشمله دعاء رسول الله (ص): "اللهمّ من أحبّني فارزقه الكفاف والعفاف"16.ثرأصنينينني
1 سورة مريم، الآية 96.
2 سورة الحجرات، الآية 7.
3 الفتال، النيسابوري، روضة الواعظين، ص 418.
4 الداماد، اثنا عشر رسالة، ج1، ص7.
5 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج98، ص 348.
6 الصحيفة السجادية، تحقيق الأبطحي، قم، مؤسسة الإمام المهدي، 1411هـ، ص413.
7 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج27، ص 57.
8 الشهيد الثاني، مسكن الفؤاد، ص 27.
9 سورة مريم، الآية 96.
10 سورة النساء، الآية 69.
11 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ط20، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983، ج22، ص87-88.
12 الميرزا النوري، خاتمة المستدرك، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (ع)، ط1، قم، 1416، ج3، ص165.
13 الخزار القمي، كفاية الأثر، ص 35.
14 كاشف الغطاء، جعفر، كشف الغطاء، ج1، ص17.
15 بحر العلوم، الفوائد الرجالية، ص91.
16 الطوسي، الآمالي، ص132.