محمد (ص) الشفيع

بسم الله الرحمن الرحيم
محمّد (ص) الشفيع
قال الله تعالى مخاطبًا سيّد بني البشر محمّد بن عبد الله: " وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" 1.
ورد أنّ أمير المؤمنين (ع) سأل أصحابه:
"أيّةُ آيةٍ في كتاب الله أرجى عندكم؟
فقال بعضهم: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) 2.
قال (ع): "حسنةٌ، وليست إياها".
فقال بعضهم: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) 3.
فقال بعضهم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) 4.
قال (ع): "حسنةٌ، وليست إياها".
فقال بعضهم: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) 5.
قال (ع): "حسنة، وليست إياها".
ثمّ أحجم الناس، فقال (ع): "ما لكم يا معشر المسلمين؟!"
قالوا: لا والله، ما عندنا شيء.
فقال (ع): "سمعت رسول الله (ص) يقول: أرجى آية في كتاب الله: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) 6. وقال: "يا عليّ، والذي بعثني بالحقّ بشيرًا ونذيرًا، إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه، فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا

استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئًا بين الصلاتين، كان له مثل ذلك، حتى عدّ الصلوات الخمس..." 7.
يبدو أنّ الإمام عليّ (ع) يسأل عن الآية الأرجى في مقام الاستحقاق لا التفضّل، فإنّ ثواب الله تعالى وإن كان كلّه بحسب الواقع هو تفضّل ومنٌّ من الله تعالى، إلاّ أنّ الله تعالى أخذ على نفسه أن يعطي ثوابًا على بعض الأعمال، وبما أنّ وعد الله تعالى واجب منه عزّ وجلّ؛ لأنّه إذا

وعد وفى، فإنّه يُطلق على تفضّله بالمصطلح العقائديّ "استحقاق".
وهناك مصطلح آخر هو "التفضّل" الذي يعني ما يعطيه الله تعالى من ثواب وعطاء زائدًا على ذلك الاستحقاق.
على أساس معنى التفضّل هذا ورد أنّ بشر بن شريح البصريّ سأل الإمام الباقر (ع): "أيّةُ آيةٍ في كتاب الله أرجى؟ قال(ع): ما يقول فيها قومك؟ قال: يقولون: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) 8.
قال (ع): لكنّا، أهل البيت، لا نقول ذلك
قال بشر: فأيّ شيء تقولون فيها؟
قال (ع): نقول: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى 9)
الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة" 10.
الشفاعة من الشفع الذي هو في مقابل الوتر، فهي تعني الانضمام لأجل المعونة، وهي في الاستعمال العرفيّ تعني تدخّل شخص لدى آخر بهدف تحصيل غرض كالمسامحة في حقّ أو حكم ثابت في عاتق شخص ثالث.
وقد أورد القرآن الكريم نوعين من الشفاعة:
الأولى: شفاعة باطلة تتضمّن معنى الشرك، من قبيل قول المشركين عن الأصنام: " هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ " 11.
وبطلان هذه الشفاعة واضح؛ باعتبار أنّ المشركين اعتقدوا أنّ في الأصنام تدبيرًا وتأثيرًا مستقلاً عن الله تعالى، بحيث إنّهم يؤثِّرون عليه تعالى، وهذا خلاف التوحيد، بل إنّ القرآن الكريم أنكر كلّ شفاعة مستقلة عنه تعالى قال عزّ وجلّ: " وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً

وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ " 12.
الثانية: شفاعة صحيحة، وهي شفاعة الله تعالى، قال عزّ وجلّ: " قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا " 13.
وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ هناك من يشفِّعه الله تعالى، فقال عزّ وجلّ: " لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا " 14 فهؤلاء يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة، يقول تعالى: -" يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا " 15.
- " وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ " 16.
- " مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " 17.
وقد صرّح الكتاب العزيز بأنّ الشفاعة المأذون بها تعطى لأصناف منهم:
1- الملائكة: قال تعالى: " وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى " 18.
2- الشهداء بالحقّ، قال تعالى: " وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " 19.
ولا شكّ أنّ من الذين يشهدون بالحقّ الأنبياء والأوصياء، فعن رسول الله (ص): "ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفِّعهم: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء" 20.
لمن يشفع هؤلاء؟
يجيب القرآن الكريم: " وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى " 21.
من هم هؤلاء الذين ارتضى الله تعالى:
ورد عن رسول الله (ص): "إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل" 22.
إنّ مقاربة الآية في ضوء هذا الحديث تؤدّي إلى أن يكون معنى "لمن ارتضى" هو ليس الرضا عن الأعمال، كيف، وشفاعة الرسول الأكرم ستكون لأهل الكبائر؟ فالمعنى المناسب أن يكون الرضا الإلهيّ هو عن الدين، وبهذا يفسَّر قوله تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى " 23.
وهذا لا يوجب الجرأة على المعاصي؛ لأنّ المؤمنين الذين سوف يشفع لهم غير محددين، فالمسلم يمكن أن ينال الشفاعة، وقد لا ينالها.
شفاعة محمّد (ص)
وقد خصّ الله تعالى الأنبياء والعلماء والشهداء بمقام الشفاعة مكافأة لهم ولإبراز كرامتهم عند الله تعالى وأمام الناس وبما أنّ رسول الله (ص) هو سيّد النبيّين وأفضل المرسلين فبه (ص) يكون افتتاح الشفاعة يوم القيامة.
ورد في تفسير قوله تعالى: " عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا " 24 عن الإمام الكاظم (ع): "يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عامًا، ويؤمر الشمس فيركب على رؤوس العباد، ويلجمهم العرق، ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئًا، فيأتون آدم (ع)، فيستشفعون منه، فيدلّهم على

نوح(ع)، ويدلّهم نوح(ع) على إبراهيم(ع)، ويدلّهم إبراهيم(ع) على موسى(ع)، ويدلّهم موسى(ع) على عيسى(ع)، ويدلّهم عيسى(ع) فيقول: عليكم بمحمّد خاتم الرسل، فيقول محمّد (ص): أنا لها، فينطلق حتى يأتي باب الجنّة، فيدقُّ فيقال له: من هذا؟ والله أعلم، فيقول: محمّد، فيقال: افتحوا

له، فإذا فتح الباب استقبل ربّه 25 فخرّ ساجدًا، فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلّم وسل تعطَ، واشفع تُشفّع، فيرفع رأسه، ويستقبل ربّه فيخرُّ ساجدًا، فيقال له مثلها، فيرفع رأسه حتى أنّه ليشفع من قد أُحرق بالنار. فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأُمم أوجه من محمّد (ص)،

وهو قول الله تعالى: (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا 26) 27.

1 سورة الضحى، الآية 5.
2 سورة النساء، الآية 48.
3 سورة النساء، الآية 110.
4 سورة الزمر، الآية 53.
5 سورة آل عمران، الآيتان 135- 136.
6 سورة هود، الآية 114.
7 المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج79، ص 220.
8 سورة الزمر، الآية 53.
9 سورة الضحى، الآية 5.
10 المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج8، ص 57.
11 سورة يونس، الآية 18.
12 سورة البقرة، الآية 48.
13 سورة الزمر، الآية 44.
14 سورة مريم، الآية 87.
15 سورة طه، الآية 109.
16 سورة سبأ، الآية 23.
17 سورة البقرة، الآية 255.
18 سورة النجم، الآية 26.
19 سورة الزخرف، الآية 86.
20 المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج97، ص 12.
21 سورة الأنبياء، الآية 28.
22 الصدوق، محمّد، الآمالي، ص 56.
23 سورة الأنبياء، الآية 28.
24 سورة الإسراء، الآية 79.
25 المراد استقبال الحضرة الإلهيّة، لا بمعنى التجسيم، وأنّ الله تعالى في مكان فإنّ الله تعالى منزّه عن ذلك.
26 سورة الإسراء، الآية 79.
27 الحائريّ، تزكية، ص 642.