بسم الله الرحمن الرحيم
محمد (ص) الوسيلة
قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ "1.
إنّها دعوة قرآنية بابتغاء وسيلة إلى الله أي بالتقرُّب إليه بوصلة.
ولم يكتفِ القرآن بالدعوة فقط، بل عرض في قصص الأنبياء (ع) بعض مجريات للتوسّل بهم واتخاذهم وصلة للتقرُّب إلى الله تعالى، ففي حكاية الله تعالى عن أبناء نبي الله يعقوب (ع) حينما أرادوا أن يتوبوا إلى الله تعالى "وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ "2 و "قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ*قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"3.
وسبب مجيئهم إلى نبيّ الله وتوسّلهم به هو موقع قرب النبيّ (ص) من ربّه وذوبانه فيه، فالتقرُّب به هو تقرُّب من الله تعالى، فكلّما كان مقام القرب من الله أعلى كلّما كان التوسّل بصاحب هذا المقام أنجع وسيلة في التقرُّب من الله تعالى.
محمد (ص) الأقرب إلى الله
وبما أنّ الإنسان الأكمل من بين الخلق والأقرب منهم جميعاً إلى الله تعالى هو خاتم الأنبياء محمد (ص) كان التوسّل به إلى الله أفضل توسّل. لذا دعا الله تعالى العاصين الظالمين لأنفسهم أن يأتوا إلى رسول الله ويتقرّبون به ليفتح الله لهم أبواب الرحمة، قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا"4.
كيف نتوسّل برسول الله (ص)؟
في سيرة الرسول الأكرم (ص) حوادث عديدة يعلّم فيها النبي الأعظم (ص) كيفيّة التوسّل به نذكر منها نماذج وردت في كتب أهل السُنّة:
1- في سنن ابن ماجة، وهو من الصحاح الستة الثابتة عند أهل السنّة، عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبي (ص) فقال: ادع الله لي أن يعافيني. فقال (ص): "إن شئتَ أخّرتُ لك، وهو خير. وإن شئتَ دعوتُ" فقال: أدعُ. فأمره (ص) أن يتوضأ، فيحسن وضوءه. ويصلّي ركعتين. ويدعو بهذا الدعاء "اللهم! إنّي أسألك، وأتوجه إليك بمحمّدٍ نبيّ الرحمة، يا محمد، إنّي قد توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى. اللهمّ! فشفّعه فيّ"5.
2- في وفاء الوفا عن أنس بن مالك قال: "لمّا ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله (ص) فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمّي بعد أمّي، وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده. قال: ثمّ أمر رسول الله (ص) فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله (ص) بيده، وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله (ص) فاضجع فيه، ثمّ قال: الله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، اغفر لأمّي فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي"6.
3- في فتح الباري ورد أنّ سواد بن قارب نشد رسول الله (ص) قصيدته التي أفصح فيها عن كون الرسول الأكرم (ص) وسيلة إلى الله تعالى ولم ينكر (ص) عليه ذلك ففي هذه القصيدة:
وأشـهـد أنّ الله لا ربَّ غيرُه وأنّك مأمون على كـلّ غائب
وأنّك أدنى المرسـلين وسـيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خيرَ مـرسَلٍ وإن كان فيما فيه شيبُ الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ سواك بمغنٍ عن سـواد بن قارب
التوسّل بالرسول الأكرم (ص) بعد وفاته
أوضح القرآن الكريم أنّ الموت لا يمثّل نهاية للإنسان، ولا إعلاناً لملفّ مؤجّل إلى يوم القيامة، بل هو باب الانتقال إلى عالم برزخي بين هذه الدنيا ويوم القيامة، وفيه يحيا كلّ من محّض الإيمان في نعيم وكلّ من محّض في عذاب.
والدليل على ذلك: 1- قوله تعالى وهو يتحدّث عن آل فرعون: " النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ "7 .
فمن الواضح أنّ حديث العذاب هو قَبْل يوم القيامة حيث يوجد غدو وعشيّ، وهما ظاهرتان بسبب الشمس التي تتكوّر يوم القيامة.
2- وقوله تعالى وهو يتحدّث عن الشهداء " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ "8.
إنّ الحديث في هذه الآية الكريمة هو عن رزق فعلي، وليس مستقبلياً، وعن استبشار فعلي بلحوق الرفاق الذين ما يزالون يخوضون ابتلاء الحياة الدنيوية.
ومَنْ أولى من رسول الله (ص) بهذه الحياة البرزخيّة الكريمة، إنّ رسول الله (ص) في إيماننا حيّ حياة أقوى من حياتنا وأرقى من حياتنا وأكمل من كلّ حياة في عالم الإمكان، لذا نحن نسلّم عليه في الصلاة بصورة المخاطب الحاضر فنقول بعد التشهّد: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
وعليه، فإنّ المجيء إلى رسول الله بعد وفاته هو كالمجيء إليه في حياته الدنيوية، فقوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا"9. هي دعوة للمذنبين أن يجيئوا إلى رسول الله (ص) بعد وفاته كما كانوا يأتون إليه في حياته الدنيوية، وهذا ما أكّده الرسول الأكرم (ص) نفسه فيما ورد عنه "من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي"10. وفي نفس الإطار ورد عنه (ص): "من زارني بعد وفاتي وسلّم عليّ رددتُ عليه السلام عشراً وزاره عشرة من الملائكة يسلّمون عليه"11.
التوسّل عند أئمّة أهل السنّة
وهذه العقيدة كما يؤمن بها الشيعة كذلك يؤمن بها أئمّة كبار من فقهاء أهل السنّة ومحدّثيهم مما جعل جلّ المسلمين يؤمنون بها ويمارسونها في سلوكهم، وهذا يظهر من خلال ملاحظة الشواهد الآتية:
1- ورد أنّ المنصور سأل إمام المذهب المالكي "مالك بن أنس" عن كيفية زيارة رسول الله (ص) والتوسّل به...قائلاً: " يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله (ص)؟ فقال: لمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (ع) إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله، قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ"12.
2- أورد النسائي والترمذي دعاءًا مستحبّاً بعد وفاة النبي (ص) هو:
"اللهم إنّي أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة. يا محمّد، يا رسول الله، إنّي أتوسّل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم فشفّعه فيّ".
3- روى البيهقي أنّ رجلاً كان يتردّد عند إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف، فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثمّ ائت المسجد فصلّ ركعتين، ثمّ قل: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد نبيّ الرحمة، يا محمّد، إنّي أتوجّه بك إلى ربي ليقضي لي حاجتي. ثمّ أذكر حاجتك... فانطلق الرجل، فصنع ذلك، فقضيت حاجته"13.
أهل البيت (ع) والتوسّل بالرسول الأكرم (ص)
كثرت الأحاديث التي يتوسّل بها أئمّة أهل البيت برسول الله (ص)، ويعلّمون ذلك لشيعتهم، ومن ذلك:
1- ما ورد عن أمير المؤمنين علي (ع) أنّه كان يقول في دعائه: "... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلي عليهم كما أنت أهله وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من عبادك الماضين من المؤمنين، وأفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين"14.
2- ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الحسين في دعاء عرفة: "... اللهمّ إنّا نتوجّه إليك في هذه العشيّة التي شرّفتها وعظّمتها بمحمّد نبيّك ورسولك وخيرتك..."15.
3- ما رُوي عن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "إيّاكم إذا أراد أن يسأل أحدكم ربّه شيئاً من حوائج الدنيا حتى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ والمدحة له والصلاة على النبيّ (ص) ثمّ يسأل الله حوائجه"16.
1 سورة المائدة، الآية 35.
2 سورة يوسف، الآية16.
3 المصدر السابق، الآيتان 97-98.
4 سورة النساء، الآية 64.
5 سنن ابن ماجة، ج1، ص441، ج4، ص138، ج16789.
6 الكجوري، محمد باقر، الخصائص الفاطمية، ج2، ص104. السمهودي، وفاء الوفا والدرر السنّية ص 8.
7 سورة غافر، الآية 46.
8 سورة آل عمران، الآيتان 169-170.
9 سورة النساء، الآية 64.
10 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج97، ص143.
11 السبحاني، في ظل أصول الدين، ص258.
12 سورة النساء، الآية 64.
13 عبد الحميد، صائب، الزيارة والتوسّل، ص150 [بتصرّف].
14 السبحاني، جعفر، في ظلال التوحيد، ص629.
15 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج95، 223.
16 المصدر السابق، ج93، ص97.