3- المحوريّة في الكون، قال الله تعالى:
" وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ " 4.
" وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ " 5.
" وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " 6.
"وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " 7.
" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ " 8.
" وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ " 9.
4- اختيار السبيل، فقد ميّز الله تعالى الإنسان عن سائر الجمادات والحيوانات، فضلاً عن الملائكة بأن خلقه مختارًا، فهو في ضوء اختياره يمكن له سلوك طريق الخير وطريق الشّر، قال الله تعالى: " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا " 10.
5- شرف التكليف، في ضوء اختيار الإنسان، وكما تشير الآية السابقة، هداه إلى السبيل الذي يحقّق السير فيه كماله الذي له قابليّة أن يصل إلى درجة أعلى من كمال الملائكة قال الله تعالى: " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا " 11.
والسبب في كونه جهولاً هو عدم تفاعله الإدراكيّ مع كون التكليف الإلهيّ هو الذي يحقّق سعادته وكماله، وبالتالي، فإنّه حينما لا يسير عليه يكون قد ظلم نفسه، وقد يظلم آخرين.
الرسالة والرسول
انطلاقًا من تكريم الإنسان، وللوصول إلى هدف تكامله من خلال سلوك سبيل التكليف الإلهيّ أنزل الله الرسالات الدالّة على طريق الكمال، وأرسل الأنبياء (ع) مرشدين له؛ ليرفعوا الإنسان من دائرة الظلم والجهل إلى نور الهداية والعلم إلى أن ختم الرسالات بأتمِّها وهي الإسلام، والأنبياء بأكملهم وهو محمّد بن عبد الله (ص) الذي وصفه الله تعالى بقوله: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " 12.
فالنداء في هذه الآية هو للنّاس كلّ النّاس 13، فالمعنى لقد جاءكم رسول، أيّها النّاس، من أنفسكم، والشاهد لكون المراد مطلق النّاس هو التعقيب بقوله تعالى: " بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " 14.
وقوله: " مِّنْ أَنفُسِكُمْ " 15 هو إشارة إلى أنّكم أيّها النّاس ترجعون إلى نفس واحدة 16، إلى إنسانيّة واحدة.
مظاهر إنسانيّة الرسول محمّد (ص)
كان النبيّ (ص) ينطلق في سيرته من الأبعاد الكماليّة لهذه الإنسانيّة، تاركًا الاعتبارات الواهية التي تأسر بعض النّاس في نظرتهم إلى الآخرين وسلوكهم في التعامل معهم.
1- لذا كان صلّى الله عليه وآله يؤكّد على هذه النظرة بقوله: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله 17.
2- وكان (ص) يؤكّد على هذا السلوك بقوله: "خمس لست بتاركهنّ حتى الممات: لباس الصوف، وركوبي الحمار مؤكفًا 18، وأكلي مع العبيد، وخصفي النعل بيدي، وتسليمي على الصبيان؛ لتكون سُنّة من بعدي" 19.
3- وانطلاقًا من هذا السلوك نقرأ في سيرة رسول الله (ص) أنّه كان يصلّي جماعة، فأسرع في صلاته، فتعجّب المصلّون من ذلك، وسألوا رسول الله عنه (ص)، فكان جوابه: "أما سمعتم صراخ الصبيّ؟" 20.
4- ونقرأ، أيضًا، في سيرته المباركة أنّه كان يقول للمجاهدين في الحرب: "سيروا بسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله (ص)، لا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًّا ولا امرأة" 21.
5- واحترامًا منه (ص) وتقديرًا للصفات الإنسانيّة النبيلة بغضّ النظر عن عقيدة الإنسان نقرأ في سيرته المباركة موقفه من ابنة حاتم الطائيّ المشرك، المعروف بمسلكه النبيل وكرمه العميم، وذلك حينما أُتي بها وقومها أسرى إلى النبيّ (ص) فقالت: "يا مُحمّد, إنْ رأيت أن تخلّي عنا, ولا تشمت بنا أحياء العرب؛ فانّي ابنةُ سيّد قومي, وإنَّ أبي كان يحمي الذمام, ويفكّ العاني, ويشبع الجائع, ويكسو العاري, ويقري الضيف, ويطعم الطعام, ويفشي السلام, ولم يردّ طالب حاجة قطّ, أنا ابنة حاتم الطائي. فقال لها النبي (ص ):يا جارية, هذه صفة المؤمن حقاً. لو كان أبوك مسلمًا لترحّمنا عليه, خلّوا عنها, فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق" 22.
6- وممّا يدلّ على عمق النظرة والسلوك الإنسانيّين من الرسول الأكرم (ص) هو ردّة فعله على أولئك المشركين الذين آذوه إيذاءً شديدًا وأرسلوا إليه صبيانهم يرشقونه بالحجارة، فما كان منه إلاّ أن التجأ إلى الله تعالى قائلاً: "اللهمّ اغفر لقومي إنّهم لا يعلمون" 23.
7- وفي دلالة عميقة لهذه النظرة التي كان النبيّ يسعى من خلالها إلى إرجاع النّاس إلى فطرتهم، ليسلكوا طريق كمالهم، والتي كان من خلالها يتحسّر حينما يجد إنسانًا أنهى حياته في ضلال ورد أنّه صلوات الله عليه وآله رأى يهوديًّا يشيَّع إلى قبره، فبكى، فقال له أحد أصحابه: أتبكي على يهوديّ مات، فأجاب (ص): "إنّما هي نفسٌ فرَّت منّي إلى جهنّم".
لأجل ما مرّ، ولغيره من مظاهر إنسانيّة الرسول الأكرم (ص) وصفه الله تعالى بقوله: "عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ " 24 أي شديد عليه عنتكم أيّها النّاس، أي عزيز عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان 25، أي شديد شاقّ عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه، لأنّه يخاف عليكم، أيّها النّاس، سوء العاقبة، والوقوع في العذاب، أي "يعزّ عليه أن تعنتوا وتعاندوا فتحرموا الثواب، وتستحقوا العقاب، فهو حريص على إيمانكم، رأفة بكم، وإشفاقًا عليكم" 26.
وقد أنزل الله تعالى آيات أخرى تدلّ على الصفة الإنسانيّة العميقة في رسول الله (ص)، وحرصه على هداية النّاس حرصًا شديدًا عبّر عنه عزّ وجلّ بقوله: " لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " 27، وبقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ" 28 أي تريد أن تهلك نفسك حرصًا على هدايتهم. وبقوله تعالى: " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " 29.
لذا كان (ص) أولى من الأنفس
ممّا سبق نفهم معنى قول الله تعالى " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ " 30، لأنّه كان أحرص على نفس الإنسان من الإنسان نفسه، ومن كان كذلك يستحقّ أن يكون أولى به من نفسه.
لذا كان (ص) أبًا
وممّا سبق نفهم لماذا فسّر الإمام الصادق (ع) قوله تعالى: " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا" 31. قال: الرسول أحد الوالدين فقال له محمّد بن عجلان فمن الآخر قال عليّ، وفي إطار المعنى نفسه ورد أنّ رسول الله (ص) قال: " يا عليّ، أنا وأنت أبوا هذه الأمّة" 32، فالوالد الحقيقيّ هو الحريص على ولده، أكثر من حرص الولد على نفسه.
هذا هو إسلام رسول الله اللائق أن يكون رحمةً للعالمين.
1 سورة الإسراء، الآية 70.
2 سورة التين، الآية 4.
3 سورة الرحمن، الآيات 1-4.
4 سورة النحل، الآية 12.
5 سورة النحل، الآية 13.
6 سورة النحل، الآية 15.
7 سورة النحل، الآية 14.
8 سورة النحل، الآية 10.
9 سورة النحل، الآية 4.
10 سورة الإنسان، الآيتان 2-3.
11 سورة الأحزاب، الآية 72.
12 سورة التوبة، الآية 128.
13 أنظر: الطوسيّ، محمّد، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 328.
14 سورة التوبة، الآية 128 .
15 سورة التوبة، الآية 128.
16 أنظر: الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 328.
17 الحرّ العامليّ، زين الدين، وسائل الشيعة، ج 16 ، ص 345.
18 مؤكفًا أي بلا رحل، وهو دليل التواضع.
19 الصدوق، محمّد، الخصال، ص 272.
20 الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج 6، ص 48.
21الكلينيّ، محمّد، الكافي, تحقيق علي أكبر الغفاري، (لا، ط)، بيروت، دار الأضواء، 1985 م، ج 5 ، ص 27.
22 الأمين, محسن, أعيان الشيعة, ج 1, ص 287.
23 ابن طاووس، عليّ، إقبال الأعمال، ج 1، ص 384.
24 سورة التوبة، الآية 128.
25 الطبرسيّ، مجمع البيان، ج 5، ص 149.
26 الرضى، تلخيص البيان في مجازات القرآن، ص 152.
27 سورة الشعراء، الآية 3.
28 سورة الكهف، الآية 6.
29 سورة فاطر، الآية 8.
30 سورة الأحزاب، الآية 6.
31 سورة العنكبوت، الآية 8.
32 الصدوق، محمّد، الآمالي، ص 755.