محمّد -ص الفاتح

بسم الله الرحمن الرحيم
محمّد الفاتح

قال تعالى: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا " 1.
ورد في رواية معتبرة عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: "إنّ لرسول الله (ص) عشرة أسماء خمسة منها في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن: فمحمّد، وأحمد، وعبد الله، ويس، ونون، وأمّا التي ليست في القرآن: فالفاتح، والخاتم، والكافي، والمقفّى 2، والحاشر" 3.
أقف عند اسم "الفاتح" الذي انبثق من القرآن الكريم من مصطلح الفتح الوارد في أكثر من آية، منها ما مرَّ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا" 4، ومنها قوله تعالى: " إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" 5.
معنى الفتح
الفتح في اللغة ضدّ الإغلاق، ففتح ضد غلق 6، فما هو الأمر الذي كان مغلقًا، ففتحه الله تعالى على يد رسوله الأكرم (ص) ليسمّى بالفاتح؟
لمعرفة الجواب لا بدّ من التأمّل بالآية التي وردت في المطلع، فهي ربطت بين الفتح وغفران ذنب النبيّ المتقدّم والمتأخّر.
معنى ذنب النبيّ
أوضح القرآن الكريم بعد العقل أنّ أنبياء الله (ع) معصومون من الذنوب.
1- قال تعالى: " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ " 7.
فهل يعقل أن يأمر الله تعالى بالاقتداء بهدى المذنبين ؟!
2- قال تعالى: " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ " 8.
ولا شكّ في أنّ الأنبياء مشملون تحت عنوان المخلصين.
بناءً على ما تقدّم لا يمكن أن نفسّر الذنب الوارد في سورة الفتح بالمعصية والإثم، لا سيّما أنّ الحديث فيها هو عن سيّد الأنبياء وأفضل المرسلين محمّد بن عبد الله (ص).
إذاً ما معنى الذنب المنسوب إلى النبيّ ؟
إنّ الذنب في اللغة يعني "الجرم" 9، وهو من المفاهيم النسبيّة التي يختلف انطباقها بحسب حال الإنسان وموقعه وبيئته، حاله في ذلك حال معنى العيب، فإنّه، أيضًا، من المفاهيم النسبيّة؛ إذ نلاحظ أنّ بعض تصرّفات الإنسان البدويّ في بيئته لا يُرى عيبًا، بينما نفس التصرّف يحكم عليه في البيئة الحضريّة بكونه عيبًا.
وعليه، فقد يكون أمرٌ ما هو ذنب عند البعض، وليس كذلك عند آخرين.
وبالعودة إلى آيتي سورة الفتح، فإنّ المراد من ذنب النبيّ (ص) هو التبعة السيئةلدى المشركين الذين تأذّوا كثيرًا من دعوة رسول الله (ص)، واعتبرها مقوّضة لتراثهم، ومذهبة لعزّتهم، لذا اعتبروا دعوته للإسلام وترك الأوثان هي ذنب كبير، وسعوا لترويج كونه مُذنبًا عند الناس، فصاروا ينعتونه بأنّه ساحر ومجنون وشاعر ونحو ذلك؛ ليشوِّشوا

عليه، ويشوّهوا صورته.
وقد أثّرت هذه الدعاية بشكل كبير بين العرب، فحالت بين عقولهم وتأثّرها بالمنطق النبويّ، وبين قلوبهم وتوجّهها نحو رسالته الإلهيّة، فكانت قلوبهم وعقولهم مغلقة أمام دعوة الإسلام.
لقد كان النبيّ (ص)، بنظرهم، مذنبًا ذنبًا كبيرًا وكادت هذه النظرة أن تبقى وتستمر في مستقبل الأيام، لكنّ النبيّ (ص) بما منحه الله تعالى استطاع أن يفتح عقولهم وقلوبهم من خلال الدعوة التي تميّزت بعناصر أربعة:
العنصر الأوّل
قوّة الأطروحة، وهي الإسلام المنطلق من العقل الموصل إلى نصٍّ يفتح أبواب الكمال الإنسانيّ، وقد دعم أطروحته بإعجاز بيانيّ وما زال الناس يعجزون عن الإتيان بمثله.
العنصر الثاني
مصداقية صاحب الأطروحة، فقد كان لسلوك رسول الله (ص) أثر كبير في تأثّر الناس بالرسالة.
يقول أحد المستشرقين: "إنّ الإسلام لو نزل قرآنًا بدون أن يرتبط بسيرة وسلوك محمّد بن عبد الله لما انتشر ذلك الانتشار الواسع".
العنصر الثالث
التضحية بالأعزّ، فقد كان الرسول الأكرم (ص) نفسه المقدام الأوّل في طريق التضحية بنفسه وبأحبّ الناس إليه، ففي المعركة كان أمير المؤمنين (ع) يقول: "لقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله (ص)، وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشدّ الناس بأسًا" 10.
وفي المباهلة مع نصارى نجران قدم النبيّ (ص) مع أعزّ الخلق إليه ووثّق ذلك القرآن الكريم بقوله:" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " 11.

العنصر الرابع
النصر العسكريّ في فتح مكّة الذي هُزم فيها المشركون، ونزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا " 12.
لقد أبطلت العناصر الأربعة السابقة خداع المشركين، وأذهبت تشويههم ماضيًا ومستقبلاً أدراج الرياح، وعندها وبعد أن جاء نصر الله والفتح " رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا " 13.
لقد شاء الله أن يستمرّ هذا الفتح وأن تتمّ نعمة الفتح بالولاية التي أنزل الله تعالى فيها بعد واقعة الغدير ما يفسِّر تمام النعمة في آية الفتح وهو قوله تعالى:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" 14؛ لأنّ الولاية هي المحافِظة على استمرار الفتح وعدم الوصول إلى إغلاق العقول والقلوب، ولو أدّى ذلك إلى تضحيات جسيمة، وهذا ما يضيء لنا

قوله الإمام الحسين (ع) حينما وصل الأمر في زمن يزيد إلى حدٍّ كادت العقول والقلوب أن تغلق على غير الحقّ فإذا به يعلن ثورته بهدف إبقاء ذلك الفتح، فكتب إلى بني هاشم: "من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح" 15.
واستمرّ دور الأئمّة (ع) في المحافظة على هذا الفتح، واستمرّ دور العلماء بعدهم في منع إغلاق عقول الأمّة وقلوبها، فجاء فتح الإمام الخمينيّ (قده) لعقولها وقلوبها من خلال ثورته المباركة في إيران التي كان فيها المدافع الأوّل عن النبيّ محمّد (ص) ورسالته، وعن أمّة النبيّ محمّد (ص) وعزّتها.
لقد ذَهَب المشركون وبقي محمّد
لقد ذَهَب الأمويّون وبقي محمّد
لقد ذَهَب الظالمون وبقي محمّد
لكنّ بقاء محمّد (ص) هو بقاءٌ محارَب، ففي هذا العصر:
حورب بآياتٍ شيطانيّة في بريطانيا
وبالرسوم الكاريكاتوريّة في النمسا
وبمنع الآذان الذي يصدح باسمه في سويسرا
وبحرق القرآن الكريم في أمريكا
وبمنع الحجاب المحمّديّ في فرنسا
ومع ذلك صدر في الولايات المتّحدة الأمريكيّة كتاب لعالم مسيحيّ هو الدكتور "هارث" قرأ فيه تاريخ العالم وحضاراته ليكتب عن أهم مئة رجل في التاريخ الإنسانيّ كلّه، وقد رتّب الأسماء المئة تبعًا لأهميّة كلّ واحد من أصحابها، وكان أوّل رجل في تاريخ الإنسانيّة عند هذا العالم المسيحيّ هو محمّد بن عبد الله، قال مبرِّرًا اختياره: "إنّ اختياري محمّدًا

ليكون الأوّل في قائمة أهم رجال التاريخ قد يدهش القرّاء، لكنّه الرجل الوحيد في التاريخ كلّه الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الدينيّ والدنيويّ، فهناك رُسل وحكماء بدأوا برسالات عظيمة، ولكنّهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحيّة.. أو شاركهم فيها غيرهم أو سبقهم فيها غيرهم أو سبقهم إليها سواهم كموسى في اليهوديّة، ولكنّ محمّدًا هو

الوحيد الذي رسالته الدينيّة كاملة، وتحدّدت كلّ أحكامها وآمنت بها الشعوب بأسرها في حياته، لأنّه أقام إلى جانب الدين دولة جديدة، ووحّد القبائل المختلفة في شعب متقدّم، والشعوب في أمّة متحضّرة ووضع لها كلّ أسس حياته، ورسم أمور دنياها ووضعها في موضع الإنطلاق إلى العالم.. أيضًا في حياته.
ثمّ يضيف المؤلّف المسيحيّ إلى ذلك: إنّ معظم الذين غيّروا التاريخ ظهروا في قلب أحد المراكز الحضاريّة في العالم.. ولكنّ محمّدًا هو الوحيد الذي نشأ في بقعة من صحراء جرداء مجرّدة تمامًا من كلّ مقوّمات الحضارة والتقدّم، ولكنّه جعل من البدو البسطاء المتحاربين قوّة معنويّة هائلة قهرت بعد ذلك إمبراطوريّات فارس وبيزنطية وروما المتقدّمة بما

لا يقاس. وفي تاريخ الغزو في كلّ مكان وزمان يكون الغزو عسكريًا، ولكنّ الرسالة المحمّديّة جعلت معظم البلاد التي فتحها خلفاؤه عربًا تمامًا وتغيّرت لغةً ودينًا وقوميّة وثبت ذلك واستقرّ بما ليس له مثيل في تاريخ الفتح في العالم".
واليوم هناك محاولات تشويهيّة لصورة محمّد (ص) في العالم من خلال أداء أولئك التكفيريّين آكلي لحوم البشر، ونابشي قبور الأموات، السائرين في المشروع الأمريكيّ الإسرائيليّ لضرب المقاومة الإسلاميّة التي تحمل لواء الإسلام المحمّديّ الأصيل.
وهذا يحتاج إلى تحمّل مسؤوليّة من كل الواعين في الأمّة من أهل السُنّة والشيعة؛ لأنّ الخطر التكفيريّ لا يفرِّق بين أصحاب المذاهب. فالتكفيريون في العراق قتلوا مئات علماء الدين من أهل السُنّة، ولكن للأسف فإنّنا نجد اليوم حربًا إعلاميّة تشويهيّة تريد تغيير الحقائق كتلك التي مارسها المشركون من أهل مكّة وهي تعمل جاهدة على غلق العقول

والقلوب عن معرفة الحقّ.
وهنا يتأكّد دور العلماء والمؤمنين والمجاهدين في العمل على فتح تلك العقول والقلوب بالكلمة الواعية، وببذل الدماء، وبالصبر والثبات، والأمور بخواتيمها.
سيأتي الزمان ليعرف العالم الإسلاميّ كلّه سنّةً وشيعة فضل دماء شهداء القصير وجراح أبطال القصير وفضل مجاهدين القصير على الأمّة في محاربة هذا النهج المدمِّر، وإنّ غدًا لناظره قريب.
1 سورة الفتح، الآيتان 1-2.
2 قال الطبرسيّ: التقفية جعل الشيء في أثر شيء على الاستمرار فيه، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف؛ إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه". الطبرسيّ، مجمع البيان، ج9، ص 402. ومنه يعرف أنّ المراد من المقفّي هو العاقب لأنّه تبع الأنبياء أي جاء عقيبهم أي بعدهم.
3 الصدوق، الخصال، ص426.
4 سورة الفتح، الآية 1.
5 سورة النصر، الآية 1.
6 الزبيدي، محمّد، تاج العروس، ج4، ص148.
7 سورة الأنعام، الآيتان 89-90.
8 سورة ص، الآيتان 82-83.
9 ابن فارس، احمد، معجم مقاييس اللغة، ج22، ص349.
10 الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، ج3، ص2240.
11 سورة آل عمران، الآية 61.
12 سورة الفتح، الآيتان 1-2.
13 سورة النصر، الآية 2.
14 سورة المائدة، الآية 3.
15 المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج42، ص81.