الحسين(عليه السلام)النور الخامس
سِرُّ الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والآل (عليهم السلام)
الأوّل من محرَّم...
توقيتٌ يندمج فيه إحياءان لحادثتين عظيمتين من تاريخ الإسلام.
الأولى: هجرة سيّد الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله)1.
الثانية: هجرة سيّد الشهداء الحسين(عليه السلام).
فالمكان واحد، وهو أقدس بقاع الأرض مكّة، فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) هاجر منها، ومنها هاجر الحسين(عليه السلام).
والسبب واحد، وهو محاولة اغتيال بطل الهِجرة، فقد تمّ التآمرُ على النبيّ ليُغتال في مكّة فهاجر منها، وكذلك على الحسين(عليه السلام) ليُغتال في مكّة ولو كان متسدّلاً بأستار الكعبة، فهاجر منها.
والغاية واحدة، وهي البحث عن الأنصار لنصرة الإسلام.
الملتَقَى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام)
وبين شخصيَّتَيْ الهجرة جامع مقدَّس، ألا وهو الكِساء، فمحمّد(صلى الله عليه وآله) هو أوّل أصحاب الكِساء، والحسين(عليه السلام) من أصحاب الكِساء[2]، فكان الكساء هوالملتَقَى بين محمّد والحسين (عليه السلام)، لكنّه لم يكن بداية الملتقى، بل كان الملتقى قبلَ قبلِ الكساء، بل قبلَ قبلِ الكون...
الملتقَى الأوّل: عالَم الأنوار
كان اللّقاء الأوّل في عالم الأنوار حيث خلق الله من نور عظمته3 محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) فكانوا في سُرادق العرش يسبّحون الله وتسبِّج الملائكة بتسبيحهم، قبل أن يخلق الله عزَّ وجلَّ، آدم4.
واستمرَّ الملتقى:
... مع آدم(عليه السلام)
فحينما أراد الله تعالى أن يخلق آدم قال لملائكته: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾5، فسألته الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾6، وكان منطلق كلام الملائكة أنّهم نظروا إلى الصفحة السوداء من مستقبل البشريّة حيث الفساد وسفك الدماء، لكنَّ الله تعالى كان ينظر إلى أنوار تتلألأ في هذا الظلام هي سرُّالخلق، وخلفيَّة جواب الله لملائكته: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾7. وأراد الله تعالى أن يعرِّفهم قُصورَ معرفتهم وضيقَ نظرتهم حين ﴿عَلَّمَ آدَمَ﴾8 أسماء تلك الأنوار، وقال لملائكته: ﴿أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء﴾9... حينها التفتت الملائكة إلى عجزها وأعلنت خضوعها للحقّ قائلة: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾10. ورفع الله من مقام آدم بأسماء تلك الأنوار حينما قال له: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ﴾11، فإذا بآدم يتلو بلسانه أسماء حجج الله 12 فابتدأ بمحمّد (صلى الله عليه وآله) واستمرّ مع الحسين(عليه السلام)، فكان الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين (عليه السلام)مع آدم (عليه السلام)في السماء.
وهبط آدم(عليه السلام) من جنّة الله إلى الأرض بعدما ألمَّ به، فأراد أن يتوب إلى الله، فتلقّى من ربّه كلمات.. إنها أسماء تلك الأنوار رآها آدم على ساق العرش، فلقَّنه جبرئيل(عليه السلام): «قل: يا حميدُ بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطرُ بحقّ فاطمة، يا محسنُ بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان»13.
... مع نبيّ الله نوح(عليه السلام)
واستمرَّ الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام) مع نبيّ الله نوح(عليه السلام) حينما أراد أن يبنيَ سفينة البشريّة الباقية التي تتحدّى الطوفان الأعظم، فأنزل جبرئيل(عليه السلام) إليه مساميرَ مباركة بها ثبتت السفينة، فضرب نوح بيده إلى مسمار فأشرق بيده، وأضاء كما يضيء الكوكب الدرِّيُّ في أفق السماء فتحيَّر نوح، فأنطق الله المسمار بلسان طَلْقٍ ذَلِق: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله)... ثمّ ضرب بيده إلى مسمار خامس، فزهر وأنار وأظهر النداوة، فقال جبرئيل: «هذا مسمار الحسين(عليه السلام)»14... فكان الملتقى في سفينة نوح بين محمّد (صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام).
واستمرّ الملتقى...
... مع خليل الله إبراهيم(عليه السلام):
بل في قلب خليل الله إبراهيم(عليه السلام)اجتمع حبُّ محمّد(صلى الله عليه وآله) وحبُّ الحسين(عليه السلام) حينما سأله الله تعالى: يا إبراهيم، من أحبُّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربُّ ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ من حبيبك محمّد(صلى الله عليه وآله)، فسأله تعالى: فولده أحبُّ إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده. فقال تعالى: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أُمَّة محمّد ستقتل الحسين(عليه السلام) ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكَبْش، ويستوجبون بذلك سَخَطي، فجَزِعَ إبراهيم لذلك، وتوجَّع قلبه، وأقبل يبكي15.
واستمرَّ الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام).
... مع كليم الله موسى(عليه السلام)
فحينما أصابَ العطشُ قومَ كليم موسى(عليه السلام) وهُم في التيه، ضجّوا إليه بالبكاء فـ (استسقى موسى لقومه)16 داعياً ربَّه: «إلهي بحقّ محمّد سيّد الأنبياء، وبحقّ عليّ سيّد الأوصياء، وبحقّ فاطمة سيّدة النساء، وبحقّ الحسن سيّد الأولياء، وبحقّ الحسين أفضل الشهداء...»17 فكان الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام) على لسان كليم الله في دعائه.
واستمرّ الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام).
... مع روح الله عيسى(عليه السلام)
حينما مرَّ مع حواريّيه في كربلاء فحُدِّث عن الحسين(عليه السلام) سبط محمّد(صلى الله عليه وآله)[18]... ويستمرُّ الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) والحسين(عليه السلام).
... في يوم القيامة
وفي أعلى منبر من منابر الأولياء، هناك يقول الله تبارك وتعالى: يا أهل الجمع لمن الكرَم اليوم؟ فيأتي الجواب من محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين: لله الواحد، فيقول الله تعالى: يا أهل الجمع، إنّي جعلت الكرَمَ لمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين.
الملتقى في التشريع الإلهي
ولم يقتصر الملتقى بين محمّد(صلى الله عليه وآله) وآله(عليهم السلام) ومنهم الحسين(عليه السلام) في عالم التكوين، بل تأكّد في تشريع الله تعالى حين رفض نبيُّ الإسلام أن يُصَلَّى عليه بمفرده فقال:«من صلَّى عليَّ، ولم يصلِّ على آلي رُدَّت عليه»19. بل أصرَّ النبي(صلى الله عليه وآله) في ما ورد عنه أن لا يُفصَل بينه وبين آله في الصلاة بـ «على» فقال: «لا تُفرِّقوا بيني وبين آلي بعلى»[20] وفرض الله هذه الصلاة في الصلاة فأنشد الشافعي قائلاً:
يا آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حبُّكُمُ
فرضٌ من الله في القرآن أنزلَهُ
يكفيكُمُ من عظيمِ الفخرِ أنَّكُمُ
من لم يصلِّ عليكم لا صلاةَ له21
وقد بيَّن خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله) ثواب من عبَّر عن الملتقى بين محمّد والآل ببشارةٍ وَرَدَ أنّه بشَّر بها أميرَ المؤمنين عليّ(عليه السلام)مع وعيد للمفرِّق بينهم قائلاً له: «... الرجل من أُمَّتي إذا صلَّى عليَّ وأتبع بالصلاة على أهل بيتي فُتحت له أبوابُ السماء، وصلَّت عليه الملائكة سبعين صلاةً وأنه لمذنب خطى، ثمّ تَحاتُّ22 عنه الذنوب كما يتحاتُّ الورق عن الشجر، ويقول الله تعالى: لبّيك عبدي وسعديك، يا ملائكتي، أنتم تصلُّون عليه سبعين صلاة، وأنا أصلّي عليه سبعمائة صلاة، وإذا لم يُتبع بالصلاة على أهل بيتي كان بينها وبين السماء سبعون حجاباً، ويقول الله(جلَّ جلاله): لا لبَّيك ولا سعديك، يا ملائكتي لا تُصَعِّدوا دعاءه إلاَّ أن يُلْحِقَ بالنبيِّ وعِترته، فلا يزال محجوباً حتّى يُلحقَ فيَّ أهل بيتي»23
تساؤل عن المقام الأمجد والمتلقى المؤكَّد
لماذا كان النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) في حقيقته الروحيّة أوّل الأنوار؟!!
ما سرُّ أنّ علياً (عليه السلام) وفاطمة (عليه السلام) والحسن(عليه السلام) والحسين(عليه السلام)هم الأنوار التالية للنور المحمّد ي؟!!
كيف نفسِّر كون علوِّ آدم بحمل أسمائهم، وتوبته بالدعاء بهم؟!!
ما هو سبب مرافقتهم (عليهم السلام) لنوح(عليه السلام) بمسامير تحمل أسماءَهم، ولإبراهيم (عليه السلام) في حبِّه لهم، ولموسى(عليه السلام) في الدعاء بهم، ولعيسى (عليه السلام) في سماع قصّتهم؟!!
بماذا امتازوا مِن غيرهم في منابر النور يوم القيامة؟
أسئلة نجيب عنها، أوّلاً ببيان جانب من سرِّ المقام المحمود لخاتم الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله)، ونعقِّبه ببيان طَرَفٍ من سرِّ الملتقى بين الحبيب المصطفى وآله الذين اصطفى.
سرُّ مقام النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)
سرُّ مقام خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله) يُعرف من سرِّ خلق الإنسان الذي كشف عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾24. فسرُّ الخلق وغايته هُما العبادة لله تعالى التي تشمل كلَّ شؤون الإنسان في هذه الحياة. فالعاقل يبدأ بالتساؤل: كيف يعبدُ الإنسان ربَّه؟ ويجرُّه تساؤله هذا إلى تساؤل آخر: ما هي الطريق التي بسلوكها تتحقَّق العبادة؟ هل يستطيع الإنسان بمفرده أن يتعرّف على هذه الطريق؟ والجواب: كلّا وكلّا!!.
فالإنسان قاصر عن إدراك الطريق التي يضمن أن توصله إلى الغاية المنشودة والتي فيها مصلحته المرادة في الدنيا والآخرة.
إذاً ما العمل؟!!
لا بدَّ من أن يعرِّفنا الله تعالى على طريق السعادة هذه بوساطة مرشدٍ إليها. وهناك ندرك ضرورة الرسالة والرسول، وننظر في تاريخ الإنسانيّة فنجد رسالات إلهيّة عديدة قد أقرَّها القرآن الكريم.
لماذا هذا التعدُّد؟ ألا يكفي للبشريّة رسالة واحدة ينزلها الله مع النبيّ، ويعمل بها الناس إلى آخر إنسان؟!!
كلّا!! إنّ المجتمع لم يكن منذ نشوئه، بل حتى بعد مراحل من تكوُّنه، مهيَّأً لرسالة واحدة خالدة، كان لا بدَّ في المجتمع الأوّل من رسالة تتلاءم معه، وحينما يتطوَّر ذلك المجتمع، تُرسَل الرسالة الأكمل لتلائمه، وتمهِّد الرسائل بعضها لبعض، وتكون جميع هذه الرسائل ممهِّدة للرسالة الخالدة التي تواكب الإنسان إلى يوم القيامة، وفي هذه الرسالة الكاملة الخالدة يكمن سرُّ الخلق.
فهذه الرسالة هي التي ترسم أرقى معالم الصِّراط الإلهيِّ السويِّ الذي يوصل الإنسان إلى سعادته الحقيقيّة.
وكانت رسالة الإسلام المحمّديّة هي تلك الرسالة الخالدة التي مهَّدت لها الرسالات السابقة.
وحامل هذه الرسالة هو الذي يحقّق الغاية الإلهيّة لخلق الإنس والجنِّ، ومن حمل الرسالات السابقة كانوا يمهِّدون له ولرسالته. ومن تكون هذه وظيفته وهذا دوره لا بدّ أن يكون أكمل بشريّ على الإطلاق، من هنا كان الرسول محمّد(صلى الله عليه وآله) يقول: «أنا سيّد بني البشر».
وهذا ما يُفهمنا مقام النبيّ(صلى الله عليه وآله) من عالم الأنوار إلى يوم القيامة. لكن يبقى السؤال عن:
سرِّ الملتقى بين محمّد وآله
فلماذا اقترنت أسماء عليّ(عليه السلام) وفاطمة(عليه السلام) والحسن(عليه السلام) والحسين(عليه السلام) باسم محمّد(صلى الله عليه وآله) على طول الطريق من أوّل الخلق إلى مستقبل البشريّة المقبل؟
وفي رسالة الإسلام يكمن الجواب.
فالإسلام - بلا شكّ ولا ريب - هو دين كامل قد أخبر الله عن كماله بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾25.
لكن نتساءل: بماذا أكمل الدين وتمَّت الشريعة؟
هل القرآن وحده هوالذي أكمل الدين؟
إنَّ المطَّلِعَ على القرآن الكريم يعلم أنّه تحدَّث عن عمومات في الشريعة وعن جملة من تفاصيلها، لكنّه لم يذكر كثيراً من التفاصيل كعدد ركعات الصلوات وغير ذلك.
إذاً لا بد من عنصر آخر غيرالقرآن لينضمّ إلى القرآن في عمليّة إكمال الدين، وهنا يأتي دور السُّنَّة النبويّة الشريفة التي قامت بدور بيان تفاصيل الشريعة الإسلاميّة.
إلاّ أنّ إلقاء نظرة فاحصة على مرحلة تبليغ هذه السّنَّة الشريفة يوقفنا أمام أمر مهمٍّ جدّاً، فمرحلة تبليغ السنّة النبويّة دامت ثلاثاً وعشرين سنة قضى منهاالنبيُّ الأعظم(صلى الله عليه وآله) ثلاثَ عشرةَ سنةً في مكّة وعشرَ سنوات في المدينة المنوّرة.
أمّا في السنوات المكّيَّة الثلاثَ عشرة فلم يؤمن بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) إلاّعدد قليل لم يتجاوز عددهم أربعمائة مسلم على الأكثر26.
وكان أغلبهم من المستضعفين المضطهدين ممَّا أدّى إلى هجرة الكثير منهم (70 عائلة) إلى الحبشة مرّتين، وبالتالي انفصالهم المباشر عن تلقّي الدعوة الإسلاميّة من النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله).
وفي هذه السنوات المكّيَّة كان المشركون يضيِّقون على النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين الباقين معه تضييقاً شديداً، ويمنعونه من تبليغ دعوته للآخرين حتى وصل الأمر بهم إلى محاصرته مع جملة من الهاشميّين في شِعْبِ أبي طالب ثلاث سنوات حيث كانت المجاعة الشديدة...
إنّ الناظر في هذا المرحلة المكّيَّة يُدرك بوضوح أنّ الفرصة لم تسنح للنبيّ(صلى الله عليه وآله) إلاّ تبليغ أساسيّات الاعتقادات والبعض القليل من جوانب الشريعة كما يُلاحظ القارىء للآيات القرآنيّة النازلة في مكّة.
وممّا يؤكّد هذا الواقع أنّ فريضة الصوم، وهي من أوائل فروع الدين، لم تنزل في مكّة بل في المدينة.
وانتهت هذه السنوات المكّيَّة بهجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى يثرب ليقضي فيها عشر سنوات كانت مليئة بالحروب والغزوات وما شابه، إضافة إلى الخلافات التي حصلت بين القبائل من داخل المجتمع الإسلاميّ الجديد. وقد سجّل التاريخ في الفترة المدنيّة النبويّة وقوع أكثر من ثمانين معركة وغزوة وإرسال سرايا وما شابه، وكان النبيّ(صلى الله عليه وآله) هو القائد العسكريّ المباشر لها.
ومن والواضح أنّ هذه الحروب والغزوات شكَّلت معوِّقات أمام تبليغ تفاصيل الشريعة الإسلاميّة والسنَّة النبويّة الشريفة.
يقول الشهيد المطهّري: «وإذا أردنا أن نغضَّ النظر عن الواقع الكائن في مكّة والمدينة، ونفترض أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلك في هذه السنوات الثلاث والعشرين من البعثة نهج المعلِّم الذي لا شأن له إلاَّ الذهاب إلى الصفّ وتعليم الناس، فمع ذلك لم يكن هذا الوقت وافياً كي يُبيِّن النبيّ(صلى الله عليه وآله) للناس جميع ما ينطوي عليه الإسلام، فكيف إذا أضفنا لذلك التاريخ القائم (الذي امتصَّ جلَّ أوقات النبيّ(صلى الله عليه وآله)) خصوصاً بشأن دين كالإسلام يبسط حاكميَّته على جميع شؤون حياة البشر؟»27.
الحلّ= ولاية الحُجَج (عليهم السلام)
إذاً لا بدَّ من حلٍّ يتسنَّى من خلاله للنبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يبلِّغ ويحفظ سنَّته الشريفة التي تمثّل مع القرآن الكريم توأم التشيُّع الكامل.
فكان الحلّ الإلهيّ يتمثّل بتربية إلهيّة لشخصٍ استثنائيّ يكون وعاءً لعلم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومستودعاً لسنَّته وحافظا للدين الحنيف. وكان هذا الشخص هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان محلَّ الفيض الإلهيّ والتعليم النبويّ.
وهذا ما يعطينا التفسير الواضح لتلك الجلسات الطويلة بين محمّد(صلى الله عليه وآله) وعليّ(عليه السلام) وتلك الملازمة الشديدة بينهما التي كان يعبِّر عنها أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: «ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيلِ أَثَرَ أُمِّه»، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) كما يخبر عنه علي(عليه السلام): «إذا سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أجابني وإن فنيت مسائلي ابتدأني»28.
وأكَّدت الروايات أنّ هذا التعليم الخاصّ كان بأمر إلهي، فقد روى أبو نُعَيْم الحافظ الشافعي (ت 430هـ) بإسناده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا علي، إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعيَ وأنزلت هذه الآية (وتعيها أذن واعية) وأنت أذن واعية للعلم»29.
ولأجل هذا الدور الإلهيّ في إكمال تبليغ الشريعة الإلهية والسنَّة النبويّة حدَّد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّ للشريعة مدخلاً وأنّ لعلمه باباً، من أراد أن يغترف لا بدَّ أن يدخل منه فقال(صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»30.
ولم تكن فترة حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) - لا سيَّما بالظروف التي أحاطت بها - كافية لأداء هذا الدور الكبير في إكمال تبليغ السُنَّة النبويّة، فخزَّن أمير المؤمنين(عليه السلام) تفاصيل الشيعة الطاهرة في الحسن والحسين(عليهما السلام) ليكونا المرجع التشريعيَّ - بالمعنى المتقدّم - للناس، وهذ ما يكشف لنا سرَّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي اشتُهر به: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»32.
وشاءت الإرادة الإلهيّة أن تنتقل هذه السنَّة المطهّرة من صدور طاهرة بعد أن يقوم كلّ إمام بدوره الرائد، فأودع الحسين(عليه السلام) علوم الإسلام في ابنه زين العابدين(عليه السلام) وهو في الباقر، والباقر(عليه السلام) في الصادق(عليه السلام)، والصادق (عليه السلام) في الكاظم(عليه السلام)، والكاظم(عليه السلام) في الرّض(عليه السلام)، والرّض(عليه السلام) في الجواد(عليه السلام)، والجواد(عليه السلام) في الهادي(عليه السلام)، والهادي(عليه السلام) في العسكري(عليه السلام)، والعسكري في قائم أهل البيت الحُجّة المهديّ| لتكتمل به سلسلة النور، وليكون أئمَّة أهل البيت(عليه السلام) مع القرآن توأم التشريع الذي خلَّفه رسول الله وأمر أمته بالتمسّك به حينما قال: «إنّي تارك فيكم الثَّقلَيْن كتاب الله وعترتي أهل بيتي (ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»32.
سرُّ الملتقى
فكما كانت عظمة النبيّ (صلى الله عليه وآله) - في أحد جوانبها - أنَّه حمل الرسالة الخالدة التي هي طريقٌ لتحقيق غاية الخلق، كانت عظمة أهل بيته، ومنهم الحسين(عليه السلام) في حفظ هذه الرسالة وإكمال تبليغها.
لذا كان لهم الموقع النورانيّ يوم القيامة.
لذا دعا بأسمائهم أنبياء الله من آدم (عليه السلام) إلى عيسى(عليه السلام).
لذا رفض النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يُصَلَّى عليه دونهم.
لذا كانوا الأنوار التالية لنوره.
لذا كان الحسين(عليه السلام) هوالنور الخامس.
1- المشهور عند أهل السنَّة أنَّ هجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) كانت في الأوّل من محرَّم، إلاّ أن العديد من المحقّقين والباحثين ذكروا أنّ هجرته الشريفة كانت في الأوّل من ربيع الأوّل، ولهذا قلنا «إحياءان» لجريان العادة على إحياء ذكرى هجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) في الأوّل من محرم.
2- انظر حديث الكساء في «فضائل الخمسة من الصحاح الستة» للعلامة الفيروزآبادي، منشورات مؤسّسة الأعلمي، بيروت 1982م، ج1، ص 271.
3- انظر: المجلسي، بحار الأنوار، منشورات مؤسّسة الوفاء 1983م، ج25، ص4، حديث 7.
4- المصدر السابق، ص2، حديث 3.
5-سورة البقرة، الآية: 30.
6- سورة البقرة، الآية: 30.
7- سورة البقرة، الآية: 30.
8- سورة البقرة، الآية: 31.
9- سورة البقرة، الآية: 31.
10- سورة البقرة، الآية: 32.
11- سورة البقرة، الآية: 33.
12- انظر: الحويزي، تفسير نورالثقلين، منشورات إسماعيليان، قم، ج1، ص 54، وفيه عن الإمام الصادق(عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى علَّم آدم(عليه السلام) أسماء حجج الله كلها ثم عرضهم - وهو أرواح - على الملائكة.
وانظر: الطباطبائي، تفسير الميزان، منشورات الأعلمي، بيروت، ج1، ص 120.
13- انظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج44، ص 245. وانظر: الطباطبائي، تفسير الميزان، ج1، ص 148، نقل هذه الرواية عن الكليني في الكافي.
14-انظر: الرواية في بحار الأنوار، ج44، ص 230.
15- انظر:الرواية عن الإمام الرض(عليه السلام)في بحار الأنوار، ج44، ص 225 - 226.
16- سورة البقرة، الآية: 60.
17- الجزائري، قصص الأنبياء، منشورات الأعلمي، بيروت، ط8، ص 300.
18- المجلسي، بحار الأنوار، ج44، ص244.
19- الطبرسي، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، ط1، قم، ج5، ص 356.
20- المصدر السابق.
21- الفيروزآبادي، فضائل الخمسة، ج2، ص 89.
22- تَحاتُّ: تتساقط (أصلُها: تتحاتَتُ).
23- المشهدي، تفسير كنز الدقائق، منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، ج8، ص 219
24- سورة الذاريات، الآية: 56.
25-سورة المائدة، الآية: 3.
26- انظر: المطهري، الإمامة، ترجمة كسَّار، منشورات أم القرى، قم، ط 1، ص 77.
27- الإمامة، ترجمة كسَّار، منشورات مؤسسة أم القرى، قم، ط1، ص77.
28-الصفار، بصائر الدرجات، منشورات بصيرتي، قم، ص 198.
انظر: كتابنا «حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة» منشورات دار الصفوة، بيروت، ط1.
29- حلية الأولياء، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1409هـ، ج1، ص67.
- الجويني (ت 730هـ)، فرائد السمطين، تحقيق المحمودي، منشورات مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409هـ، ج13، ص 136.
- العلامة الحلي (ت 726هـ) كشف اليقين، تحقيق علي آل كوثر، منشورات مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم، ط 1، ص 52.
- انظر: كتابنا (حقيقة مصحف فاطمة عند الشيعة»، ص 146.
30- الترمذي (ت 297هـ)، الجامع الصحيح، منشورات دار إحياء التراث، بيروت، ج5، ص 637.
- الحلي، كشف اليقين، ص 57، الأربلي، كشف الغُمَّة، منشورات دار الكتاب الإسلامي، بيروت، ج1، ص 113، الهندي، كنز العمال، ج13، ص 148، القندوزي، ينابيع المودة، منشورات الأعلمي، بيروت، ص70.
31-المجلسي، بحار الأنوار، ج10، ص 78.
32- الطبري، المسترشد، تحقيق المحمودي، منشورات مؤسّسة الثقافة الإسلامية، قم، ص 560، انظر: كتاب «حديث الثقلين» الذي طبع في القاهرة من قبل دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقد جمع فيه أسانيد هذا الحديث في كتب أهل السنَّة.