بهاء الحسين عليه السلام في طريق الموت
في العاشر من المحرَّم تعجَّب مَنْ حول الحسين عليه السلام من أمر الحسين عليه السلام، لأنّّ عادة الإنسان حينما يقدم نحو الموت أن يتغيَّر لونه وترتعد فرائصه وتضطرب نفسه، لكنّ الحسين عليه السلام كان كلما اشتدَّ عليه الأمر في كربلاء وقرب من الموت سكنت نفسه وهدأت جوارحه وأشرقَ لونه نوراً وبهاءً.
قيل: انظروا إليه لا يبالي بالموت.
فقال لهم الحسين عليه السلام:صبراً بني الكرام! فما الموت إلاَّ قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرار إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟!! وما هو لأعدائكم إلاَّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب.
إن أبي حدَّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جِنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم....
يعلِّمنا الحسين عليه السلام في كلماته العاشورائيّة هذه درسين:
الأوّل: في حقيقة الموت.
الثاني: في نظرة المؤمن إلى الموت.
حقيقة الموت
فالموت في كلام الحسين عليه السلام ليس بوَّابة العدم، بل هو والحياة مخلوقان من خلق الله تعالى كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
وحقيقته أنّه جسر يعبر بالإنسان نحو عالم حقيقيّ يعيش فيه الإنسان نشأة أخرى، وعلى حدِّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام أنّه - أي الموت - باب الآخرة، الآخرة التي خلق الإنسان ليعيش فيها الخلود بعد أن طوى مرحلة الدنيا "ما خُلقتم للفناء، بل خُلقتم للبقاء، وإنّما تُنقلون من دار إلى دار".
الموت: لوحة الجمال
والدرس الثاني الذي يعلّمنا إيّاه الحسين عليه السلام في موقفه العاشورائيّ من الموت هو النظرة الصحيحة إليه، هذه النظرة التي ارتسمت على وجهه الشريف في العاشر من المحرَّم، ونطقت بها شفتاه الطاهرتان في مكّة المكرّمة وهو على طريق كربلاء "خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة".
فالحسين عليه السلام يرى الموت أنّه محيط بالإنسان لا مفرَّ منه، لكنّ إحاطته كإحاطة القلادة تزيِّن الإنسان المؤمن كما تتزيّن الفتاة حينما تضع القلادة على صدرها.
لذا كان الموت في نظر الحسين عليه السلام هو سعادة، "إنّي لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ بَرماً".
ولذا كان آخر فعل قام به الحسين عليه السلام قبيل حزِّ رأسه الشريف أنّه ابتسم، كما ورد في بعض الروايات.. ابتسم بعد أن علَّم أهل بيته كيف يبتسمون للموت، حتّى الصغار منهم، فها هو القاسم ابن الحسن الذي لم يبلغ الحِلم سأله عمّه الحسين عليه السلام:"كيف ترى الموت يا عمّ؟ فأجاب: إنّي أرى الموت أحلى من العسل".
ابتسم الحسين عليه السلام للموت في كربلاء بعد أن علَّم أصحابه كيف يبتسمون له، فها هو برير قبيل شهادته يضاحك عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: يا برير، ما هذه ساعة باطل، فقال برير: "لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّاً، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلاَّ أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة، ثم نعانق الحور العين".
لماذا نكره الموت؟
إذا كانت هذه هي نظرة الحسين عليه السلام للموت فلماذا نجد الكثير من الناس، ومنهم المتَّصفون بالإيمان، يكرهون الموت، بل قد يكرهون ذكره وينفرون منه؟!!
لقد طرح هذا السؤالَ رجلٌ على أبي ذرّ رحمه الله قائلاً: ما لنا نكره الموت؟ فأجاب (ره): "لأنّكم عمَّرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب".
نعم، إنّ الكاره للموت، لا يكرهه في نفسه، بل يخاف ممّا يستقبله بعده، يخاف من معاصيه وآثارها، يخاف من آثامه ونتائجها، فيكره الموت لذلك.
ذكر الموت
وقد أراد الله تعالى أن يكون ذكر الموت رادعاً للإنسان عن معاصيه بدل أن يكون مكروهاً بسببها، لذا وردت الروايات تحثّ الإنسان على ذكر الموت، ليكون ذكره منبّهاً للطاعة ومبعداً عن المعصية، فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، وأفضل التفكُّر ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت، وجد قبره روضة من رياض الجنّة"، وقال علي عليه السلام في ما ورد عنه: "أكثروا ذكر الموت، ويوم خروجكم من القبور وقيامكم بين يدي الله عزَّ وجلَّ يهوّن عليكم المصاب".
وكان ثُلّة من المؤمنين محافظين على هذه السُنَّة، سُنّة ذكر الموت، فقد رُوي أنّ شابّاً من الأنصار كان يأتي عبد الله بن العبّاس، وكان عبد الله يكرمه ويدنيه، فقيل له: إنك تكرم هذا الشاب وتدنيه، وهو شاب سوء يأتي المقابر فينبشها بالليالي، فقال عبد الله بن العبّاس: إذا كان ذلك فأعلموني، فخرج الشابّ في بعض الليالي يتخلّل القبور، فأعلم عبد الله بن العبّاس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشابّ فدخل الشابّ قبراً قد حُفر، ثمّ اضطجع في اللّحد، ونادى بأعلى صوته: (يا ويحي إذا دخلت لحدي وحدي، ونطقت الأرض من تحتي فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلاً، قد كنت أبغضك وأنت على ظهري، فكيف وقد صرت في بطني؟! بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً والملائكة صفوفاً، فمِن عدلك غداً من يُخلّصني، ومن المظلومين من يستنقذني، ومن عذاب النار من يجيرني، عصَيْتُ من ليس بأهلٍ أن يُعصى، عاهدت ربّي مرّة بعد أخرى، فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاء)، وجعل يردّد هذا الكلام ويبكي، فلمّا خرج من القبر التزمه ابن العباس وعانقه ثم قال: نِعْمَ النبّاش! نِعْمَ النبّاش! ما أنبشكَ للذنوب والخطايا.
ملك الموت والسلطة الواسعة
إنّ ذكر الموت هو ذكر لواقع الإنسان الذي سيقبل عليه، ليتهيّأ الإنسان لإستقبال ذلك الواقع الذي لا مفرَّ منه، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾!، إلى أين يفرّ الإنسان من الموت؟! وقد أعطى الله السلطة الواسعة لملك الموت كما تفيد رواية المعراج عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيها: "لمّا أُسريَ بي إلى السماء رأيت مَلَكاً من الملائكة بيده لوح من نور لا يلتفت يميناً ولا شمالاً مقبلاً عليه ثبّه كهيئة الحزين، فقلت: من هذا يا جبرئيل؟! فقال: هذا مَلَك الموت مشغول في قبض الأرواح، فقلت: أدنني منه يا جبرئيل لأكلّمه، فأدناني منه، فقلت له: يا مَلَك الموت، أكلُّ من مات أو هو ميِّت فيما بعد أنت تقبض روحه؟ قال: نعم، قلت: وتحضرهم بنفسك؟ قال: نعم، ما الدنيا عندي فيما سخَّرها الله لي، ومكّنني منها إلا كدرهم في كفِّ الرجل يقلِّبه كيف يشاء، وما مِن دارٍ في الدنيا إلاَّ وأدخلها في كلّ يوم خمس مرّات، وأقول إذا بكى أهل البيت على ميّتهم: لا تبكوا عليه، فإنّ لي إليكم عودة وعودة حتى لا يبقى أحد منكم".
سكرة الموت
وتأتي ساعة الإنتقال إلى عالم الآخرة، ساعة لقاء ملك الموت، الساعة التي لا بدّ منها، وفيها تكون السكرة ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾، قد يكون حول المُحتَضَر أهل يبكون وأحبَّة يودّعون، لكنّه يكون متوجّهاً إلى غير ما يتوجّهون، فنظره ليس إليهم، وفكره ليس عندهم، وتذكّره ليس لهم، إنّه يتذكَّر أشياء أخرى، يتذكَّر ماضيَه، يتذكّر ظلمه وجرائره، يتذكَّر نِعَمَ الله التي منحها إيّاه فاستعملها بغير رضاه، ومن جملة ما يتذكّر ما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه السلام وهو يحدِّثنا عن حالة المحتَضَر "يتذكَّر أموالاً جمعها، أغمض في مطالبها، وأخذهامن مصرّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعاتُ جمْعِها، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون بها، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره".
ويحاول الإنسان في تلك اللّحظة أن يستنجد بما تعلّق به في الدنيا، فيكون الجواب كما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيَّام الدنيا، وأوّل يوم من أيَّام الآخرة مُثّل له مالُه وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك؟ فيقول: خذ منّي كفنك.
فيلتفت إلى ولده فيقول: والله إنّي كنت لكم محبًّا، وإنّي كنت عليكم محامياً فماذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها. فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليَّ لثقيلاً فماذا لي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم حشرك حتى أُعرَض أنا وأنت على ربِّك".
قبض الروح
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾.
ويدخل ملك الموت بدون استئذان، يدخل منادياً الروح أن تنطلق إلى ربِّها، والمحيطون بالميِّت عنه غافون به لا يشعرون، وهو الذي حدَّثنا عنه أمير المؤمنين: "هل تحسّ به إذا دخل منزلاً؟! أم هل تراه إذا توفَّى أحداً؟، بل كيف يتوفَّى الجنين في بطن أمّه؟ أَيلِج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بإذن ربِّها؟ أم هو ساكنٌ معه في أحشائها؟.
كيف يقبض ملك الموت روحك؟
أنت الذي تقرِّر ذلك؟
فإن كنت متعلّقاً بالدنيا تعلّقاً تريد به إبقاء روحك فيها، فإنّ جذبة الموت ستكون قاسية.
وأيّة قسوة هي؟! القسوة التي تكفي صورتها عذاباً.
فها هو خليل الله إبراهيم عليه السلام يقول لملك الموت: هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر؟ قال: لا تطيق ذلك، قال: بلى، قال: فأعرض عني، فأعرض عنه، ثمّ التفت، فإذا هو برجلٍ أسود، قائم الشعر، منتن الريح، أسود الثياب، يخرج من فيه ومناخره لهيب النار والدخان، فغشي على إبراهيم، ثمّ أفاق، فقال: لو لم يلق الفاجر عند موته إلّا صورة وجهك لكان حسبه".
إنّها القسوة التي قال عنها محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام:"إنّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سَفّود من نار، فنزع روحه به فتصيح جهنّم"، هذه القسوة تختصّ بأولئك المنحرفين البعيدين عن الله.
أمّا المؤمن المطيع الذي عرف أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، فعمل على الزرع فيها من خلال الطاعات، وحافظ على زرعه بعدم إرتكاب المعاصي، فإنّه لن يكون عند الإحتضار متعلّقاً بهذه الدنيا بل سيسلم روحه لملك الموت الذي يقف أمامه كالعبد الذليل، كما أجاب النبيّ من سأله: كيف يتوفّى ملك الموت المؤمن؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى، فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتسليم، ويبشّره بالجنّة".
وعندها يسلُّ ملك الموت روح المؤمن بكلّ راحة وإنسياب "كما تُسلُّ الشعرة من الدقيق".
فيكون الموت للمؤمن "كأطيب طيب يشمّه، فينعس لطيبه، وينقطع التعب عنه".
هذا هو الموت السعادة، كالقلادة على جيد الفتاة، هو أحلى من العسل، هو المستقبَل بإبتسامة، لكنّه رهين بأن ينطبق علينا العنوان الكبير ألا وهو "المؤمن".
نداء السماء
وتنفصل الروح عن جسدها، لتبدأ رحلة طويلة في منازل الآخرة، ومع بداية الرحلة، وعند مفارقة الروح للجسد ينادَى الإنسانُ من السماء بثلاث صيحات:
1 - يا ابن آدم أَتركتَ الدنيا أم الدنيا تركتك؟!
2 - أجمعتَ الدنيا أم الدنيا جمعتك؟!
3 - أقَتلتَ الدنيا أم الدنيا قتلتك؟!
ويوضع الميت على المغتسل لتتابع السماء نداءها:
1 - يا ابن آدم أين بدنك القويّ؟ ما أضعفك!!
2 - أين لسانك الفصيح؟ ما أسكتك!!
3 - أين أحباؤك؟ ما أوحشك!!
ويُلفّ الميت بثوب الآخرة فتناديه السماء:
"تذهب إلى سفر بعيد بغير زاد، وتخرج من منزلك فلا ترجع أبداً، وتصير إلى بيت أهول".
القبر: بيت الوحشة:
وأي بيت هو؟!
إنّه بيت الوحشة..
إنّه بيت الدود..
إنّه بيت السؤال..
يقول يونس وهو أحد أصحاب الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام: حديث سمعته عن أبي الحسن عليه السلام ما ذكرته وأنا في بيت إلاَّ ضاق عليَّ: "إذا أتيت بالميت إلى شفير القبر فأمهله ساعة فإنّه يأخذ أهبته للسؤال".
وقد ورد أنّ السيدة فاطمة عليها السلام أوصت أمير المؤمنين عليه السلام "إذا أنا متّ فتولَّ أنت غسلي، وجهزني، وصلّ عليَّ، وأنزلني في قبري، وألحدني، وسوّ التراب عليَّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي، فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء، فإنّها ساعةٌ يحتاج الميت فيها إلى أُنس الأحياء".
فلنستعدَّ لبيت الوحشة حيث لا قريب ولا حبيب.
ولنطوّر العلاقة بالله الحبيب الأوّل والآخر، ليكون هو الأنيس في بيت الوحدة ولنردّد الدعاء: "يا عدتي في كربتي ويا أنيسي في وحدتي..."، وحينئذٍ لا نبالِ بالقبر، بل لا نبالِ بالجسد، كما لم يبالِ استشهاديّو المقاومة الإسلاميّة الذين تناثرت لحومهم في الهواء، فلا قبر لهم ولا جسد، فذابوا في الله، لأنّهم عرفوا حقيقة الموت، وتعلّموا من الحسين عليه السلام كيف ينظرون إلى الموت.
* وليال عشر، سماحة الشيخ أكرم بركات.