لماذا ثار الحسين (عليه السلام)؟
تربة كربلاء والقداسة
مهما تَدْعُ الله بحنين وأنين، فإنّ هناك حُجُباً سبعة، يمثِّل كلُّ حجاب ذنباً من ذنوبك يمنع من استجابة دعائك، فإذا أردت أن تخرق الحُجُبَ السبعة لتنفتح لك أبواب الإجابة، فاسجد على تربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فإنّها تخرق الحُجُب السبعة.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «السجود على تربة الحسين (عليه السلام) يخرق الحجب السّبعة».
احمل سُبْحة وانتقِ حباتها من تربة قبر الحسين (عليه السلام)، وأَدِرْها في يدك من دون أن تقول شيئاً، فإن الله يعطيك أجر التسبيح ببركة تربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «السُّبحة التي هي من طين قبر الحسين (عليه السلام) تسبّح بيد الرجل من غير أن يسبِّح».
إذا أردت الأمان لوُلْدِك فحنِّكهم بتربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «حنِّكوا أولادكم بتربة الحسين (عليه السلام) فإنّه أمان».
وإذا أردت حرزاً للمخاوف فاحمل تربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي (عليه السلام) فإنّ فيه... أمناً من كلِّ خوف».
وإذا أردت شفاءً لنفسك فإيّاك أن تأكل من طين تربة أفضل النبيّين محمّد (صلى الله عليه وآله) فقد حرَّم الله ذلك عليك.
وإيَّاك أن تأكل من طين تربة سيّد الوصيّين عليّ (عليه السلام) فقد حرَّم الله ذلك عليك.
لكنْ كُلْ قليلاً من طين تربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) فقد جعل الله فيه الشّفاء لنفسك.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «طين قبر الحسين (عليه السلام) شفاء من كلّ داء».
حلِّق في آفاق السماوات لعلَّك تسمع الحور العين تنتظر ملائكة الله الصاعدين من الأرض تتلقّى منهم الهديَّة ألا وهي تربة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
ففي الرواية أنّ الحور العين إذا أبصرن بواحد من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمرٍ ما، يستهدين منه السُّبَحَ والتربة من طين قبر الحسين (عليه السلام).
سرُّ قداسة التربة
ماذا حدث في كربلاء؛ لتخرق تُربتُها الحجب السبعة؟!!
ماذا حدث مع الإمام الحسين (عليه السلام) لتُصبحَ تربة قبره حرزاً وأماناً وهديّة للحور العين؟!!
إنّ ما حدث هو ثورة الحسين (عليه السلام) التي تكمن عظمتها في سرِّها وسببها.
سبب ثورة الحسين (عليه السلام)
وها هو الحسين (عليه السلام) يتحدّث عن دوافع ثورته في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حينما أراد الخروج:
«إنّي لم أخرج أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدِّي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جَدّي وأبي عليّ بن أبي طالب».
يصرّح الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيّته هذه بأنّ دافع ثورته عنوان «الإصلاح»، وهذا يعني أنّ هناك انحرافاً حدث في المجتمع الإسلامي أراد الحسين (عليه السلام) إصلاحه، وهنا يشير الإمام الحسين (عليه السلام) إلى انحرافَيْن أساسيَّيْن:
الإنحراف الأوّل: حصل في الأمّة الإسلاميّة، فالحسين (عليه السلام) قال: «خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي».
الإنحراف الثاني: حصل في القيادة والزعامة، فالحسين قال: «وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»، وكلمة السيرة إصطلاح يُراد منه المسلك السياسيّ للحاكم، فالإمام الحسين حينما يقول: أريد أن أسير بسيرة جدّي وأبي عليّ... فإنّه يستثني مسلكيّات سياسيّة لقادة حكموا بين النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) وبعد عليّ (عليه السلام)، وبهذا أشار إلى إنحرافات في هذه المسلكيّات السياسيّة.
إنحراف القيادة (سياسة معاوية)
وأبدأ الحديث عن الإنحراف الثاني وبالتحديد الإنحراف القياديّ الذي حدث في زمن معاوية بن أبي سفيان الذي حكم بعد الإمام عليّ (عليه السلام) وأراد أن يقضي على النور والهدى والعدل الذي زرعه عليّ (عليه السلام) بين المسلمين.
واعتمد معاوية في سياسته على عدّة أمور:
1 - سياسة التفريق
فقد أخذ معاوية يزرع الفتنة بين القبائل ليحقّق المقولة المعروفة «فرّق تَسُدْ» وبذلك يفتّت المعارضة التي تعمل ضدّه.
ومن شواهد ذلك ما قاله معاوية لرسوله إلى البصرة يذكّره بذكريات حرب الجمل وقتل عثمان: «فانزل في مُضَر، واحذَرْ ربيعة وتودَّد الأزد، وانعَ ابن عفَّان، وذكِّرهم الوقعة التي أهلكتهم ومنِّ لِمَنْ سمع وأطاع دنيا لا تَفْنَى وأَثَرَةٍ لا يفقدها» .
2 - سياسة الإرهاب
فقد كان معاوية ينكّل ويُرهب كلّ من لا يتّفق معه، فكان من أبرز أساليبه القتل وحرق البيوت وسلب الأموال، حيث قُتل في المدينة ومكّة ثلاثون ألفاً عدا من أحرق بالنار، «وكان أشدَّ الناس بلاءً أهلُ الكوفة لكثرة من بهم من محبّي عليّ (عليه السلام)، فقتلهم تحت كلّ حجر ومَدَر، وقطع الأيدي والأرجل، وأعمى العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطرد الكثير منهم وشرَّدهم عن العراق».
وقد نقل المؤرخون أنّه شرَّد من الكوفة خمسين ألفاً من أهلها ليغيّر الوضع الدّيموغرافي فيه، وقد بلغ إرهاب معاوية حدّاً جعل الرجل يفضِّل أن يقال عنه: إنّه زنديق أو كافر، ولا يقال عنه إنَّه من شيعة عليّ.
3 - سياسة التّضليل الديني
فقد سعى معاوية إلى تخدير الناس باسم الدين ليشلّ بذلك حركتهم الثورية فاشترى بعض علماء السوء لينشروا الأحاديث الكاذبة التي تناسب سياسته، وكانت هذه الأحاديث تُدرَّس في الدواوين والمدارس ليتربّى عليها الجيل الإسلامي القادم، ومن تلك الأحاديث ما رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «مَنْ رأى مِن أميره شيئاً يكرهه فليصبِرْ عليه فإنَّ مَنْ فارقَ الجماعةَ بشبر فمات، إلاَّ ميتةً جاهلية»، و «ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمّة وهي جمْع فاضربوه بالسيف كائناً من كان» .
4 - سياسة تغيير القدوة
وعلم معاوية أنّ غايته لا تتحقّق إلاَّ إذا استطاع أن يزرع في المجتمع الإسلاميّ قدوة مصطنعة يقتدي بها الناس، ماحياً صورة القدوة التي يريدها الله تعالى، فاشترى العلماء لينشروا الأحاديث الكاذبة عن النبي (صلى الله عليه وآله) التي تصوِّر معاوية القدوة الصالحة للمسلمين، وفعلاً انتشرت بعض الأحاديث التي تصنف في قائمة المهاترات التاريخيّة نذكر منها:
«إنّ الله ائتمن على وحيه ثلاثاً: أنا، وجبرئيل ومعاوية».
«أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها، ومعاوية حَلَقتُها».
وإنّ النبيّ ناول معاوية سهماً فقال له: «خذ هذا حتى تلقاني في الجنّة».
سياسته تجاه الإمام عليّ (عليه السلام)
ولم يكتف معاوية بتصوير نفسه بمظهر القدوة الصالحة، بل أعلن الحرب على القدوة الحقيقيّة المتمثّلة أوّلاً برسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) وثانياً بأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لعلمه أنّ الإسلام المحمّديّ الأصيل يتمثّل بهما فأراد القضاء عليهما.
وهكذا انتهج معاوية سياسة تركّزت على النيل من «عليّ» بشكل صاخب ومن محمّد (عليه السلام) بأشكال أخرى.
ونبدأ بذكر سياسات معاوية تجاه الإمام عليّ (عليه السلام).
الحرب ضد علي (عليه السلام) في القرآن الكريم
لم يكن باستطاعة معاوية أن يحرِّف ألفاظ الآيات القرآنية وقد أكَّد الله تعالى أنّه له حافظ، مع أنّ كثيراً من هذه الآيات قد نزلت في بيان مقام عليّ (عليه السلام) وكرامته عند الله تعالى، لذا أراد معاوية أن يحرِّف دفَّة تفسير هذه الآيات فدفع مبالغ طائلة لشراء ضمائر بعض من عُرف بمصاحبته للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فدفع معاوية لِسَمُرَة بن جندب 400 ألف درهم ليروي أنّ قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ نزل في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإنّ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ﴾ قد نزل في عبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام).
الحرب ضدّ عليّ (عليه السلام) في السنَّة النبويّة
وكان معاوية يشتدُّ غيظاً كلّما تذكّر الأحاديث النبويّة الواردة في بيان فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فكتب نسخة واحدة إلى عمّاله: «إن برئت الذمة ممَّن روى شيئاً من فضائل أبي تراب وأهل بيته».
لعْن عليّ (عليه السلام)
فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويَبْرَأُون منه ، فلُعِنَ عليّ (عليه السلام) من على منبر المسجد الحرام ومن على منبر المسجد النبويّ ثمانين سنة.
وكان زياد بن سميّة يجمع الناس بباب قصره يحرِّضهم على لعن عليّ (عليه السلام) فمن أبى عرضه على السيف. وقد كان كثير من الناس في عيد الفطر والأضحى يفرّون بعد صلاة العيد حتى لا يسمعوا الخطيب يلعن عليّاً (عليه السلام) فأحدث معاوية تقديم خطبة العيد على الصلاة لكي يسمعَ الناس لعْنَ عليّ (عليه السلام).
واعتاد الناس أن يلعنوا عليّاً حتى حكم عمر بن عبد العزيز وأصدر أمره بمنع اللعن، إلاَّ أنّ الناس - لا سيّما أهل الشام - لم يتوقّفوا عن اللعن مباشرة، إذ ورد أنّ خطيب الشام وقف يخطب بهم، ولم يُنهِ خطبته باللعن فثارت ثائرة الناس، وقاموا ينادون: «السنَّة السنَّة تركْتَ السنَّة».
نعم أضحى لعن عليّ (عليه السلام) سنَّة بنظر هؤلاء المضلَّلين.
مسجد الذِّكْر
بل ورد أنّ رجلاً قال للإمام زين العابدين (عليه السلام): «إنّا لنحبّكم أهل البيت (عليه السلام)» فأجابه (عليه السلام): «أنتم تُحبّون حسب السنون، من شدّة حبّها لولدِها تأكله، أترى هذا عن محبّة ومصافاة وخالص مودّة وموالاة؟ ألم يرَوْا ما فعل قبل ذلك مَنْ لعنَ أميرَ المؤمنين على المنابر... ليس فيها مسلم ينكر حتى أنَّ أحد خطبائهم بمصر نسيَ أن يلعن أميرَ المؤمنين على المنبر في خطبته، وذكر ذلك في الطريق عند منصَرَفِه، فلعنه حيث ذَكر قضاءً لما نسيه، وقياماً بما يرى أنّه فرْض، وقد لزم وبنى في ذلك المكان مسجداً، وهو باقٍ إلى الآن بسوق وَرَدَ أنّه يُعرَف بمسجد الذِّكْر».
الحرب ضدّ اسم عليّ (عليه السلام)
وأعلن معاوية وسائر بني أميّة الحرب على اسم عليّ (عليه السلام)، فمنعوا الناس من تسمية أبنائهم باسم عليّ (عليه السلام)، بل روى ابنُ حَجَر أن بني أميّة كانوا إذا سمعوا بمولود اسمه «علي» قتلوه.
وكان الناس يتقرَّبون إلى الأمراء ببغض عليّ (عليه السلام) بل ببغض اسم عليّ (عليه السلام)، فقد جاء أحدهم إلى الحجّاج وقال: «أيها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجّاج وقال له: للطف ما توسَّلت به وقد ولّيتك موضع كذا...».
وأصبح اسم عليّ (عليه السلام) إرهابيّاً لكثير من الناس، حتى أضحوا يخافون من التلفّظ به حتى فيما يتعلَّق بأحكام الدين فكانوا يقولون «روى أبو زينب» أو «قال الشيخ».
من هنا نفهم السرّ في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد سمّى كلّ أولاده باسم عليّ(عليه السلام) فكان عنده عليّ الأكبر وعليّ الأصغر (عبد الله الرضيع) وعليّ زين العابدين، وكان يقول: «لو ولد لي مائة لأحببت أن لا أسمّي أحداً منهم إلاَّ عليّاً» .
تأثّر مؤقّت
وقد أثّرت سياسة معاوية في تحريف صورة عليّ (عليه السلام) برهة من الزمن في أوساط الشاميّين الذين كان معاوية قد هيَّأهم منذ بداية حكمه على بُغض عليّ (عليه السلام) الذي لا يعرفون من هو، حتى نُقِلَ أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) حينما استشهد في مسجد الكوفة نادى منادي الشام: قُتل عليّ (عليه السلام) وهو يصلّي، فاستغرب أهل الشام قائلين: أَوَ كان عليّ (عليه السلام) يُصلّي؟!!!
العارفون الصامدون
لكنّ معاوية لم يستطع أن يؤثّر في أولئك الذين عايشوا عليّاً (عليه السلام) وعرفوه عن قرب، رغم قمع معاوية لهم وإرهابه إيّاهم، كما فعل بحُجْر بن عُديّ حينما أُتي به إلى مرج عذراء - وهو أوّل مسلم دخلها فاتحاً - مع أصحابه الموالين لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وهناك قال لهم رسول معاوية: «إنّا قد أُمرنا أن نعرُضَ عليكم البراءةَ من عليّ واللعنَ له، فإن فعلتم هذا تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم»، فأجابوا: «لسنا فاعلين»، فأمر بقبورهم فحُفرت، وأُتي بأكفانهم، فقاموا الليل كلّه يصلّون»، فلمّا أصبحوا، وكرَّر أصحاب معاوية عرْضَهم بالبراءة من عليّ (عليه السلام) أو القتل فأبَوا البراءة، فقُتلوا وبقي حُجْر وابنه وطلب حُجْر من القوم قبل قتله طلبَيْن:
الأوّل: أن يصلّي ركعتين لله.
الثاني: أن يُقتل ابنه أمامه - إن أرادوا قتله -.
فضُربت عنق ابنه، فقيل لحُجْر: تعجَّلْتَ الثُّكْلَ!
فأجاب: «خفت أن يَرى ولدي هَوْلَ السيف على عنقي فيرجعَ عن ولاية أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).
هل انتصر معاوية في حربه ضدّ عليّ (عليه السلام)؟
إذا أردتَ معرفة الجواب، فاذهب وزُرْ قبر عليّ (عليه السلام) في النجف الأشرف لتجد منارات الهدى التي تتهافت إليها قلوب المؤمنين، ثمّ عقِّب وزُر قبر معاوية في الشام، لتجده مزبلة من مزابل التاريخ، حينها تدرك كيف انقدحت قريحة ذلك الشاعر (محمّد المجذوب) الذي زار مقام عليّ (عليه السلام) في النجف ثمّ زار قبر معاوية في الشام فوقف عنده وأنشد يقول:
أين القُصورُ أبا يزيدَ وزَهْوُها
والصَّافِناتُ ولَهْوُها والسؤددُ؟!
أين الدَّهاءُ نحرت عزَّتَه على
أعتابِ دنيا سِحرُها لا يَنفد؟!
هذا ضريحك لو بصرتَ بِبُؤسِهِ
لأسالَ مدمعَكَ المصيرُ الأسودُ
كُتَلٌ من التُّربِ المَهين بِخربَةٍ
سَكِرَ الذُّبابُ بها فراحَ يُعربدِ
قُم وارمُقِ النَّجفَ الأغرَّ بِنَظرةٍ
يَرتدَّ طَرْفُكَ وهو باكٍ أرمَدُ
تِلكَ العِظامُ أعزَّ ربُّك شأنَها
فتكادُ لولا خوفُ ربِّك تُعبَدُ
هل استطاع معاوية والأمويّون بعده أن يحُدّوا من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ويمنعوا من انتشارها.
كلّا، لقد ارتدّوا على أعقابهم خاسئين، وهذا سرٌّ من أسرار أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو ما عبَّر عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي بقوله: «ما أقول في مَنْ أحجمَ شيعتُه عن التحدُّث بفضائله خوفاً من القتل والتشريد، وكتمَ اعداؤه فضلَه حسداً وبغياً، وظهر من بين ذا وذا ما ملأ الخافقين؟!».
معاوية والنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)
ولم يكن عداء معاوية لعليّ الشخص فحسب، بل كان عداؤه لعليّ الإمام الذي يمثّل الإسلام الحقيقيّ، كان عداؤه للإسلام الذي قضى على حكم آبائه وأرغمهم على أن يعتنقوه، لذا كان معاوية يغتاظ حينما يسمع المؤذّن ينادي «أشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)»، فقد قال ذات مرّة وهو يسمع صوت المؤذن: إنّ ابن أبي كبشة ليُصاح به كلّ يوم خمسَ مرّات «أشهد أنّ محمّداً رسول الله» فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟َ لا والله إلاَّ دفناً دفن.
وحاول معاوية تشويه صورة سيّد بني البشر محمّد (صلى الله عليه وآله)، وذلك بشراء علماء السوء ليروُوا أحاديث موضوعة تنال من تلك الصورة المقدَّسة، وأخذ يصوِّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) كإنسان يتغلَّب عليه نجد الشرّ، فيغضب ويسبّ الناس، كما في تلك المناجاة الكاذبة المرويّة عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إني بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيُّما مؤمن لعنته، أو سببته، فاجعلها له صلاة وزكاة».
وتجرَّأ الأمويّون على النبيّ (صلى الله عليه وآله) بنشر ما يصوِّره يخطىء في أوامره كما ورد في الخبر الموضوع عنه (صلى الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنّما أنا بشر».
وزاد حجم التجرُّؤ برواية تجعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرفع زوجته عائشة لتنظر إلى رقص الحبشة بمسجده إلى أن وصل الأمر فيهم أن روَوْا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أُقيم في منزله حفلُ غناء، إلى أن دخل أحد الصحابة فطلب النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيقاف الغناء، لماذا؟
أجاب النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لقد جاء من يخاف الله!!!».
وقد مكَّنت هذه الجرأة وهذا التهكُّم الفاضح أن يصعد بعض الولاة على منابر المسلمين ليقولوا: «أخليفة أحدكم أكرم عند الله أم رسوله؟» .
أثر سياسة معاوية في المجتمع الإسلامي
جعلت سياسات معاوية التي ذكرنا المجتمعَ الإسلاميَّ مجتمعاً تتحكّم فيه النزاعات القبليّة التي تُلهيهم عن القضايا الكبرى، مجتمعاً خائفاً من القتل والتنكيل والسلب والتشريد، مجتمعاً شُلَّت حركته الثوريّة باسم الدين، وبروايات عن نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله)، مجتمعاً يعتبر أنّ الثائر على الحكم الظالم يموت ميتة جاهليّة، مجتمعاً تغيَّرت فيه صورة القدوة وتشوَّهت فيه صورة الصالحين.
هذا المجتمع الممزَّق الخائف المشرَّد الذي شُوِّهت عقيدتُه وزيِّف تاريخُه هو الذي عايشه الحسين (عليه السلام).
نعم هناك قسم من هذا المجتمع لم تستطع دعايات معاوية وأساليبه أن تغيِّر حبَّهم للعدل الذي رأوه في الإمام عليّ (عليه السلام) والقيم التي شاهدوها فيه، ألا وهو مجتمع الكوفة، ولكنّ حبّهم هذا لم يغيِّر من واقع هزيمتهم وخوفهم فأصبحوا في ازدواجيّة يعيشونها، صوَّرها الفرزدق للإمام الحسين (عليه السلام) حينما سأله عن حالهم بقوله: «قلوبُهم معك، وسيوفُهم عليك»، لكنّ القلوب المحبَّة لم تؤثّر أدنى أثر في حالة الهزيمة النكراء التي وصل إليها مجتمع الكوفة والمستوى المتدنّي له والذي صوَّرته قصّة سفيرالحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل الذي اجتمع حوله الآلاف، ولكن حينما دخل عبيد الله بن زياد، نادى مسلم بن عقيل بكلمة السرّ فاجتمع حوله أربعة آلاف مقاتل توجهّوا نحو قصر الإمارة وحاصروه، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد انهزم أربعة آلاف مقاتل، أمام من؟، كم كان يوجد في داخل القصر؟، التاريخ يؤكّد أنّ من كان داخل القصر لا يتجاوز ثلاثين رجل.
هذا هو المجتمع الذي عايشه الحسين (عليه السلام)، مفرَّقٌ، خائفٌ، مُخدَّرٌ، مُضلَّلٌ، فقد كان الإسلام يُمحى من دون أن يعترض أحد أو يسجّل موقفاً.
رأى الحسين الخطورة على الإسلام، وعلم أنّ هذا المجتمع النائم في سبات عميق لا تهزّه كلمات ولا خطب ولا مواعظ، وأنّ هذا المجتمع لا يوقظه ضخ الماء في وجهه، بل لا بدّ من ضخِّ الدم على عينيه، وأيّ دمٍ؟ إنّه دم الحسين (عليه السلام) ولهذا ثار الحسين (عليه السلام).
علم الحسين (عليه السلام) أنّ الإسلام لا يمكن أن يبقى إلاَّ بثورة يكون قربانها هو نفسه، فقام (عليه السلام) بأوّل عملية استشهاديّة في الإسلام، حيث قدَّم فيها نفسه وأهل بيته وأصحابه.
فلولا ثورة الحسين (عليه السلام) لما بقي للإسلام من أثر، لقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قال: «حسينٌ منّي وأنا من حسين»، ولو لا ثورة الحسين لما بقي ذكر لمحمّد (صلى الله عليه وآله)، ولما بقي رسم للإسلام، فكان الحسين من محمّد ومحمّد من الحسين.