عاشوراء والصلاة الأكمل
يقول تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾1
يسعى كل إنسان نحو السعادة فهي غاية الجميع دون استثناء لكنهم يختلفون فيما يحقق هذه السعادة، فبعضهم يجنح لتحقيقها بواسطة المال والجاه والشهرة والسلطة وبعضهم يجنح لتحقيقها بالابتعاد عن كل هذه الأمور من خلال الانعزال في صومعة الفرد.
لكنَّ الكلَّ يُجمعون أن منشأ السعادة الحقيقي هو الذي يوصل إلى الاطمئنان القلبي، والاستقرار النفسي، والراحة، والسكينة. وقد أراد الله تعالى أن يختصر التجارب والمحاولات والقراءات في منشأ هذا الاطمئنان فقال عز وجل: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾2. فالإنسان حينما يتوجّه إلى شيء، فإنما يتوجه إليه لأجل كمال فيه، فالإنسان مفطور على حبِّ الكمال، والتوجّه إليه. والله تعالى هو الكمال المطلق، ومصدر كلِّ كمال. من هنا أرشدنا الله تعالى إلى التوجّه إلى مصدر الكمالات. ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾3 وهذا التوجّه الحاضر دون غفلة هو الذي يحقق الاطمئنان ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾4
والسؤال كيف نحقِّق هذا الذِّكر؟ يقول تعالى مجيباً: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾5، وبما أنَّ الذكر يحقِّق الكمال الإنساني، كانت الصلاة سُلَّماً ومعراجاً إلى الكمال المطلق، لذا ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال:"الصلاة معراج المؤمن "6
وفي هذا المعراج تخلية وتحلية.
تخلية الصلاة
أمَّا التخلية، فالصلاة مطهّرة من الذنوب أنقى تطهير.
فعن سلمان الفارسي المحمدي(رض): "كنَّا مع رسول الله في ظلِّ شجرة، فأخذ غصناً منه، فنفضه، فتساقط ورقه، فقال: ألا تسألوني عمّا صنعت ؟ قلنا: أخبرنا يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتت خطاياه، كما تحاتت ورق هذه الشجرة"7.
وتخلية الصلاة هي أعلى مرتبة من تخلية التوبة، فمفعول التوبة يحدِّثنا عنه الإمام الصادق(عليه السلام) قائلاً:
" إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله، فستر عليه في الدنيا والآخرة" فسأله ابن وهب: وكيف يستر عليه؟ فقال(عليه السلام): "يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثم يُوحي إلى جوارحه: اكتبي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب"8.
هذا كلُّه أثرٌ للتوبة، أما الصلاة فإن لها الأثر الأكبر والأهم وهو ما يُفهم من الحوار التالي بين أمير المؤمنين(عليه السلام) وبعض أصحابه حينما قال لهم: أيَّةُ آيةٍ في كتاب الله أرجى عندكم ؟
- فقال بعضهم: " إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء "9.
- قال(عليه السلام): حسنةٌ وليست إياها.
فقال بضعهم:" وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا "10.
- قال(عليه السلام): حسنةٌ، وليست إياها.
- فقال بعضهم: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ 11.
- قال(عليه السلام): حسنةٌ وليست إياها.
- فقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾12.
- قال عليه السلام: حسنة وليست إياها.
- ثم أحجم الناس، فقال عليه السلام: "ما لكم يا معشر المسلمين!!
- قالوا: لا والله، ما عندنا شيء.
- فقال عليه السلام: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول أرجى آية في كتاب الله، " وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ "13-. وقال صلى الله عليه وآله: "يا علي، والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً، إنَّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته، وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه، فإنْ أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عدَّ الصلوات الخمس"14.
ثم قال صلى الله عليه وآله: "يا علي، إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهرٍ جارٍ على باب أحدكم فما ظنُّ أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم أكان يبقى في جسده دون؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي"15.
إذاً التوبة ساترة للذنوب، والصلاة ماحية لها.
بل هي جاذبةٌ لعطايا الله تعالى، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): "للمصلي ثلاث خصال،
1- إذا قام في صلاته يتناثر عليه البر من أعنان السماء إلى مفرق رأسه.
2- وتحفُّ به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء
3- وملك ينادي أيها المصلي لو تعلم من تناجي ما انفتلت"16.
لذا كان تعبير الإمام الصادق(عليه السلام): "أحبّ الأعمال إلى الله عزَّ وجل الصلاة وهي آخر وصايا الأنبياء"17.
تحلية الصلاة
بما أنَّ الإنسان مفطور على حبِّ الكمال والانجذاب عليه، وبما أنّ الصلاة هي معراج المؤمن إلى الكمال المطلق، فهي وسيلة العشق الإلهي.
وكم يرغب العاشق بالتواصل مع معشوقه.
قال الله تعالى لموسى(عليه السلام):" وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى "18، وهو سؤال يُتوقع أن يكون جوابه بكلمة "عصا"، إلا أنّ موسى خالف المتوقَّع، فقال: قَالَ "هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى "19.
ما دخل كلّ ذلك بالسؤال ؟ الجواب بلغة القلب هو أنّ موسى(عليه السلام) لما علم أنّه يتكلّم مع معشوقه وهو الله تعالى أحبَّ أن يطيل الحديث معه.
من هنا كان النبي محمد(صلى الله عليه وآله) حينما يحلُّ وقت الصلاة يقول لصاحبه الحبشي:"أرحنا يا بلال"20
إنَّ من يشعر في صلاته بحالة العشق هذه، بروحه المتحرِّكة وجسده الذي ينتقل من حالة إلى حالة يدرك معنى ما ورد عن الإمام علي(عليه السلام):" إن الإنسان إذا كان في الصلاة، فإنَّ جسده وثيابه وكلَّ شيء حوله يسبح"21.
تأويل الصلاة
وهذه الرواية حول تسبيح كلّ الجسد تدفعنا لفهم حركات المصلّي، والتي يبيّنها أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله الوارد عنه: "تأويل مد عنقك في الركوع تخطر في نفسك آمنت بك ولو ضربت عنقي"22.
قيم الصلاة
إنَّ مقام الصلاة هذا يستدعي أن نلتفت إلى أمور هي:
1- وقت الصلاة
ينبغي للمؤمن أن يعطي الصلاة الأولوية على جميع ما عداها من الأعمال، وهذا ما يرمز إليه أذان الصلاة:"حيَّ على خير العمل". فمن يصلّي صلواته في أول أوقاته، فإنّه يعبِّر بذلك عن تقديم صلته بالله على كلِّ صلة.
لذا جعل الإمام الصادق(عليه السلام) الصلوات في مواقيتها معيار الإيمان الحقيقي، فعنه(عليه السلام): "خصلتان من كانتا فيه، وإلا فاعزب، ثم اعزب، ثم اعزب"
قيل: وما هما ؟، قال(عليه السلام): "الصلاة في مواقيته، والمحافظة عليها والمواساة"23.
ولذا بيَّن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ثواب من يهتم بالصلوات في أول أوقاتها بقوله(صلى الله عليه وآله): " ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس، إلا ضمنت له الروح عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار"24.
وكذا كانت الصلاة في أول الوقت أساسية في برنامج السالك إلى الله تعالى.
قال الشيخ محمد تقي بهجت(قده): "من حقَّق ثلاثة وصل إلى الحقيقة وهي:
1- فعل الواجبات وترك المحرّمات.
2- الإخلاص في العمل.
3- أداء الصلاة في أول أوقاتها.
2- مكان الصلاة
بأن يختار أفضل الأمكنة وأحبَّها عند الله تعالى، ألا وهي المساجد، فقد ورد أن الله تعالى أوحى إلى نبيِّه داود(عليه السلام):" أن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إن على المزور كرامة الزائر"25.
3-هيئة الصلاة
بأن يقصد صلاة الجماعة التي ورد أنّها إذا زاد عددها عن العشرة "فلو صارت البحار والسماوات والأرض كلّها مداد، والأشجار أقلام، والثقلان مع الملائكة كتاب، لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة"26
وما يزيد من ثواب الجماعة أن تكون في المسجد.
فعن النبيّ(صلى الله عليه وآله):" من مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكل خطوة سبعون الف حسنة ويرفع له من الدرجات مثل ذلك وان من مات وهو على ذلك وكل الله به سبعين الف ملك يعودونه في قبره ويبشرونه ويونسونه في وحدته ويستغفرون له حتى يبعث"27.
4- روحية الصلاة
بأن يصلّيها بحضور القلب، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): " إذا أحرمت في الصلاة فأقبل عليه، فإنك إذا أقبلت أقبل الله عليك، وإذا أعرضت أعرض الله عنك"28.
5-أثر الصلاة
فالله تعالى يقول: " إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ"29
فالصلاة تجعل الإنسان يقترب ممّا يحبّ الله تعالى أن يقترب منه، ويبتعد عن كلّ ما يريد الله أن يبتعد عنه.
عاشوراء: مظهر قيم الصلاة
لقد اجتمعت هذه القيم الخمس في مسجد كربلاء المعنوي في أول الوقت، جماعة، بحضور القلوب، بعنوان النهضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فقد ورد أن أبا ثمامة الصيداوي من أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) قال للإمام وقت الظهير من يوم العاشر من محرَّم:
" يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة، فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين، نعم هذا أول وقتها ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي"30، فقام الحسين(عليه السلام) في نحو نصفٍ من أصحابة وصلّى بهم جماعة، وتقدّم سعيد الله الحنفي أمام الحسين(عليه السلام) وهو يصلّي، يدفع عنه النبال بجسده، فما زال يرمى بالنبال حتى سقط إلى الأرض وفي جسده ثلاثة عشر سهم، وهو يقول: أللهم بلّغ نبيّك السلام عني، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك نصرة ذريّة نبيّك، وعرجت روجه نحو السماء، ليكون في محضر العشق العاشورائي شهيد الدفاع عن الصلاة.
هكذا هم أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) في عشقهم وصلاتهم، فإنّهم عشّاق شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحق بهم من بعدهم. فلنسر على خطاهم مردّدين يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً.
1- سورة طه، الآية 14
2- سورة الرعد، الآية 28.
3- سورة الأنعام، الآية 79
4- سورة الرعد، الآية 28
5- سورة طه، الآية 14
6- الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، تحقيق حسن النمازي، (ل،ط)، قم، جماعة المدرسين، 1419ه، ج6، ص 343.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص 103.
8- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج14، ص 324.
9- سورة النساء، الآية 48.
10- سورة النساء، الآية 110.
11- سورة الزمر، الآية 53.
12- سورة آل عمران، الآيتان، 135-136.
13- سورة هود، الآية 114.
14- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج79، ص 220.
15-
16- الصدوق، ثواب الأعمال، تحقيق محمد الخرسان،ط2، قم، منشورات الشريف الرضي،1368ش، ص 35.
17- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج3، ص 264.
18- سورة طه، الآية 17.
19- سورة طه، الآية 18.
20- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج80، ص 16.
21- المصدر السابق، ص 200.
22- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج5، ص 60.
23- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج71، ص 391.
24- المصدر السابق، ج80، ص 9.
25- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج80، ص 373.
26- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج6، ص 385.
27- الري شهري، ميزان الحكمة، ج2، ص 1259.
28- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل’ ج3، ص 57.
29- سورة العنكبوت، الآية 45.
30- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص 21.