المتخلفون عن الفتح

المتخلفون عن الفتح

في رسالة للإمام الحسين(عليه السلام) إلى بني هاشم، حينما خرج من مكة متوجِّهاً نحو العراق: «من الحسين ابن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم، أمَّا بعد، فإنّه مَنْ لحق بي منكم استُشهد معي، ومن تخلَّف لم يبلغ الفتح»1.

إنَّها برقية تصنّف الناس في زمن الحسين(عليه السلام) إلى نوعين:
الأول: شهداء بلغوا الفتح.
الثاني: متخلّفون لم يبلغوا الفتح.


حديثي عن النوع الثاني وهم أصناف سبعة، أتحدّث عن ثلاثة منهم:

الصنف الأول: الذين التحقوا ثم انسحبوا أثناء الطريق
ففي منطقة زبالة علم الإمام الحسين(عليه السلام) بسقوط الكوفة، واستشهاد مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله ابن يقطر، فقام خطيباً بين أتباعه، والملتحقين به، وقال لهم، بكلّ شفافيّة، «،أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع،قتل مسلم بن عقيل،وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه ذمام».2

ينقل ابن جرير الطّبري عن أبي مخنف تعقيباً على خطاب الإمام(عليه السلام): «فتفرّق النّاس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي من أصحابه الّذين جاؤوا معه من المدينة».3

سبب انسحابهم أنّهم ليسوا عقائديين، بل أرادوا المكاسب الدنيوية، لما ظهر أنّهم لن يصلوا إليها انسحبوا.

الصنف الثاني: الذين دعاهم الإمام الحسين(عليه السلام) لنصرته وهو في طريقه إلى العراق، فلم يلتحقو، ومن هؤلاء:

1-عبيد الله بن حر الجحفي
أرسل إليه الإمام الحسين(عليه السلام) أحد أنصاره وهو الحجّاج بن مسروق الجعفي الذي دخل عليه مبشِّراً بقوله: «قد أهدى الله إليك كرامة» فسأل عبيد الله عنها، فأجابه الحجاج: «هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته، فإنْ قاتلتَ بين يديه أُجرت، وإن متَّ فقد استشهدت».

فإذا بالجحفي يجيب بصراحة: «ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين(عليه السلام) وأنا فيها لا أنصره»4.

رجع الحجّاج يجيب إمامه بمقولة ابن الحر، فإذا بالإمام الحسين(عليه السلام) يذهب بنفسه إلى عبيد الله، ويقول له:«يا ابن الحر، فاعلم أنّ الله عز وجلّ مؤاخذك بما كسبت، وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من ذنوب،... أدعوك إلى نصرتنا أهل البيت»5

وبعد أن فتح الإمام الحسين(عليه السلام) لابن الحر باباً واسعاً من أبواب الجنة، إذا بعبيد الله يعبِّر عن ازدواجية بين اعتقاده ومسلكه فقال للإمام:«والله إني لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك، ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن تحملني على هذه الخطة، فإنَّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت، ولكن فرسي هذه المُلحقة، والله ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلا لحقته، ولا طلبني أحد وأنا عليها إلا سبقته، فخذها فهي لك»6.

إنه تعبير واضح عن كون مشكلة هذا المتخلِّف ليست في المعرفة، فهو يعتقد بأحقيّة الإمام الحسين(عليه السلام)، وأنَّ من اتبعه كان السعيد في الآخرة.

ولكنه أيضاً تعبير واضح عن تعلّقه بالدنيا الذي جعل نفسه متمسكة بها رافضة الشهادة.

2-عمرو المشرقي وابن عمّه
في منطقة قصر بني مقاتل التقى الإمام الحسين(عليه السلام) بعمرو بن قيس المشرقي، وبابن عم له كان معه، فسلّما عليه، فقال لهما: «أجئتما لنصرتي»؟ فأجابا بالنفي مسوِّغين:«ل، إنّا كثيرو العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندر ماذا يكون، ونكره أن نضيِّع الأمانة»7.

إنَّ هذا المنطق يُلبس خذلان الحقّ لبوس عناوين دينية كالمحافظة على الأمانة، واجتماعية ككثرة العيال تاركين أمانة الله العظيمة المتمثّلة بالإمام الحسين(عليه السلام) الذاهب مع كثرة عياله إلى المذبح الإلهي.

3- الطرماح بن عديّ
كان دليل مجموعة من المجاهدين الذين التحقوا بالركب الحسيني بعد محاصرته من قبل الحر بن يزيد الرياحي، إلا أنّه غادر الموكب لسبب هو أن أراد أن يوصل النفقة لعياله، وبعدها يلحق بالإمام الحسين(عليه السلام)، وفي تاريخ الطبري أنّه رجع متأخراً بعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام).

فالطرماح رغم حسن سيرته إلا أنّه لم يرتِّب أولوياته جيداً ففوّت على نفسه أعظم فرصة وهي أن يكون من العشاق الشهداء الذين لا يسبقهم أحد قبلهم ولا يلحقهم أحد بعدهم.

الصنف الثالث: الذين هربوا من جيش عمر بن سعد قبل بدء القتال
يذكر تاريخ كربلاء أنّ أحد جنود عمر بن سعد وهو هرثمة بن سلمى، حينما وصل إلى كربلاء تذكّر موقفاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) حينما كان مارَّاً بكربلاء، أثناء معركة عسكرية حضرها هرثمة نفسه، وشهد نزول الإمام علي(عليه السلام) بكربلاء عند بلوغه، حيث صلّى تحت شجرة هناك، ولما فرغ(عليه السلام) من صلاته رآه هرثمة بأمِّ عينيه قد أخذ من تراب تلك الأرض، وشمّها، ثم قال مستشرفاً المستقبل: «واهاً لك من تربةٍ، لَيُقتلنَّ بك قوم يدخلون الجنّة بغير حساب»8. فما كان من هرثمة إلا أن جاء إلى الإمام الحسين(عليه السلام) وحدّثه بما تذكَّره، فسأله الإمام عن انتمائه: «معنا أم علينا؟»إلا أنّ تعلق هرثمة بالدنيا أدّى به إلى أن يجيب الإمام(عليه السلام):«لا معك ولا عليك، تركت عيالاً...»، فختم معه الإمام حديثه بما ختمه مع غيره: «ولِّ في الأرض فوالذي نفس حسين بيده، لا يشهد قتلنا اليوم رجل إلا دخل جهنّم»، فانهزم هرثمة هارب9.

من الواضح أنّه لم تنقص هرثمة معرفة، فما تذكَّره كافٍ في انقلاب الإنسان إلى ضفَّة الحق، إلا أنّ ذلك لم ينفعه. فحاله بعكس ذلك الرجل الذي سمع أيضاً بأنّ الإمام الحسين(عليه السلام) سيُقتل في كربلاء، ولكنه لم يعرف تاريخ ذلك، فما كان منه إلا أن رابط في الصحراء يراقب كربلاء مصمِّماً على الالتحاق بالإمام(عليه السلام)...

 وقد روى ابن عساكر قصة هذا الرجل عن العريان بن الهيثم الذي قال:
«كان أبي ينزل قريباً من الموضع الذي كانت فيه الطّف، وكنّا لا نجتاز في ذلك المكان إلا وجدنا رجلاً من بني أسد مقيماً هناك.. فقال له أبي: إني أراك ملازماً هذا المكان ؟ فقال له: بلغني أنّ حسيناً يُقتل ههنا، فإنما أخرج، لعلِّي أصادفه؛ فأُقتل معه». ويذكر العريان بن الهيثم أنَّ والده قد اصطحبه عقيب انتهاء الواقعة ليبحثا عن ذلك الرجل الأسدي، فوجدوه مع الشهداء الفاتحين10.

أسباب التخلّف عن الفتح
يمكن إرجاع الأسباب الكامنة للتخلّف عن الحسين(عليه السلام) إلى سببين:

السبب الأول: المتعلّق بالدنيا الغاية
وقد عبّر الإمام الحسين(عليه السلام) عن هذا السبب في كربلاء بقوله:" «الناس عبيد الدني، والدِّين لعقٌ على ألسنتهم، يَحوطُونه ما درَّت معايشُهم، فإذا مُحصُوا بالبلاء قلَّ الديّانون»11

وكذا في قضية يوم العاشر إذ قال(عليه السلام): "أيّها الناس، إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنَّكم هذه الحياة الدّنيا؛ فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيِّب طمع من طمع فيها... 12

فالإمام(عليه السلام) يجيب هؤلاء بأن دنياكم لها وصفان حقيقيان:
1- زائلة
2- متصرفة

وهذا ما يصفه الإمام الهادي في قصيدته المعروفة التي يعظ فيها المتوكّل قائلاً:
باتوا على قُلَل الأجبال تحرسهم
غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُلَلُ
واستنزلوا بعد عزٍّ عن معاقلهم
وأُنزلوا حُفَراً يا بئسَ ما نزلوا!
ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا
أين الأسرّة والتيجان والحُللُ؟
أين الوجوه التي كانت منعّمة
من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرًا وما شربوا
فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
وطالما عَمَروا دورا لتحصنهم
ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادخروا
فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطّلةً
وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

السبب الثاني: عدم الوعي والالتفات إلى قيمة الفرصة
كان الطرماح حسناً في سريرته إلا أنّه لم يكن واعياً لاغتنام الفرصة، لذا كان موقف الطرماح، درس قاسياً تعلّمه أبناء مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام) الذين انتهلوا من معين قيم عاشوراء.

ومن هؤلاء المتعلمين شهيد من شهداء المقاومة الاسلامية في لبنان هو علي زهري الذي كان يُلقّب بـ: «عبد الرسول»، إذ يروي مسؤوله المباشر قصته من أول قدومه إلى المحور الجهادي حينما أخبره عن رؤيا شاهدها أثناء نومه في ذلك المكان المبارك، فقد رأى أنه قامت القيامة، وإذ بالناس يحاسَبون بين يدي الله تعالى، وحينما جال بنظره رأى الإمام الحسين(عليه السلام) يُدخل بعض الناس إلى الجنّة من أحد أبوابها، ولاحظ أنَّ مدخل الباب مزدحم بصفٍّ طويل، فما كان من الشهيد عبد الرسول إلا أن خالف ترتيب الصّف، وتقدّم إلى مدخل باب الجنّة متجاوزاً الواقفين، فناداه أحدهم: إرجع، وقِفْ في الصف، فليس الوقت وقتك، بل وقتك بعد عشر سنوات. ويتابع الشهيد الحديث عن رؤياه بأنّه بعد وقت لم يشعر بطوله انتهت السنوات العشر، ووصل دوره إلى الباب ودخل الجنّة.

قصّ الشهيد رؤياه على مسؤوله «أبو حسين» أول قدومه للعمل الجهادي في ذلك المحور الذي بقي يجاهد فيه طيلة السنوات العشر. وكان يُلاحظ عليه فيه أنّه كان أثناء هذه السنوات يمارس جهاده العسكري بحيث لا يبدو حذره في أية عملية، وإن كانت مما يقتضي الحذر،وكان يسوِّغ ذلك لمسؤوله قائلاً: لم تمضِ السنوات العشر.

ولكنْ بعد عشر سنوات حينما انتخبه قادة المقاومة ليشارك في عملية «سُجُد» لاحظ عليه مسؤوله أنّه بدأ يتحدث بكل جدّية مُغيّراً تصرفاته المعهودة. وقتها تذكّر مسؤوله الرؤي، وأخذ يحسب الزمن الذي مضى على قدوم عبد الرسول، فتبين أنّه في السنَة العاشرة من زمن بداية عمله الجهادي في المحور.

ومن موقع المحبّ قال له مسؤوله: «انزل إلى بيروت وودِّع خطيبتك ثم أقدم للمشاركة في العملية».

فأجابه عبد الرسول: «أنا منذ عشر سنوات انتظر هذه اللحظة، فلعلي إذا ذهبت إلى بيروت يحدث لي حادث في الطريق فأتأخر عن العملية، فأحرم نفسي من الشهادة».

لقد حرم الطرماح نفسه من الفتح، ونجح الشهيد عبد الرسول في الالتحاق بركب الفاتحين.

والحمد لله ربّ العالمين


1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تصحيح محمد مهدي الموسوي الخراساني، (لا،ط)، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1396 هـ.ش، ج42، ص81.
2- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 300.
3- المصدر السابق، ص 300، 301.
4- الأمين، حسن، مُستدركات أعيان الشيعة، ط2، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1418ه، ج1، ص115.
5- المُهتدي البحراني، عبد العظيم، من أخلاق الإمام الحسين(عليه السلام)، ط1، قم، انتشارات شريف الرضي، 1421ه، ص 186.
6- الدينوري،أحمد، الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، ط1، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1960م، ص251.
7- عابدين، محمد علي، الدوافع الذاتية لأنصار الحسين(عليه السلام)،ط1، بيروت، دار الكتب الإسلامي، ص 189، 190.
8- ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام)، تحقيق محمد باقر المحمودي، ط2، قم، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1414ه، ص 343.
9- عابدين، محمد علي، الدوافع الذاتية لأنصار الحسين(عليه السلام) ص241.
10- المرجع السابق ص 242، 243.
11- شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين، ص 245.
12- المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام)،ص227.