في تاريخ الفتوحات أنزل طارق بن زياد جنده على ساحل البحر، وأمر بحرق السفن، ثم وقف أمام جيشه خطيباً يقول: "العدوّ أمامكم، والبحر وراءكم، فإمَّا الموت وإمَّا النصر".
لقد أراد طارق نصراً عسكرياً، لم يرده الإمام الحسين عليه السلام في نهضته التي كان هدفها إحياء الدين بدم الشهادة.
لذا وقف الحسين عليه السلام عشيَّة رحيله من مكة خطيباً يقول: "خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة من جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف... ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إنْ شاء الله"1
إنّه حديث عن الموت بلغة خاصة، فهو كالقلادة التي تعبِّر عن معنيين يجتمعان فيها مع الموت: الإحاطة والجمال.
1- فالموت محيط بالإنسان لا مفرَّ منه: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾2.
2- والموت الذي تحدَّث عنه الإمام الحسين عليه السلام في نهضته جميل جمال القلادة حول جيد الفتاة.
لذا ورد أنَّ الحسين عليه السلام في العاشر من المحرَّم كان كلَّما اشتدَّ عليه الأمر في كربلاء، واقترب من الشهادة سكنَتْ نفسه، وهدأَتْ جوارحه، وأشرقَ لونُه نوراً وبهاءً.
قيل: انظروا إليه لا يبالي بالموت.
فقال لهم الإمام الحسين عليه السلام: "صبراً بني الكرام! فما الموت إلاَّ قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرَّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة"3.
وسبب هذا المشهد الراقي هو نظرة الإمام الحسين عليه السلام إلى الموت بأنَّه وصل وليس بفصل، لأنَّه بتعبيره هو "لقاء الله" "من كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا"4.
صفات المؤهلين للخروج مع الإمام عليه السلام
فلْنَتصوَّر أنَّنا كنا مع أولئك الناس ليلة خروج الحسين عليه السلام من مكة، فهل كنَّا خرجنا معه؟
الإمام الحسين عليه السلام حدَّد صفتين للمؤهَّلين للخروج معه:
الأولى: توطين النفس على لقاء الله تعالى.
الثانية: بذلُ المُهَج في أهل البيت عليهم السلام.
أما توطين النفس على لقاء الله، فلا بدَّ لحصوله من تثبيت المعرفة بالله تعالى، وتطويرها من المعرفة النظرية التي نحصِّلها من خلال التأمّل، والمطالعة، والتعلَّم، فالبعرة تدلُّ على البعير، والآثار على المسير، أسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدلاَّن على اللطيف الخبير؟!.
قال الديّصاني للإمام الصادق عليه السلام: دُلَّني على معبودي، فقال له عليه السلام: "اجلس"، وإذا غلام صغير، في كفّه بيضة يلعب بها، فقال عليه السلام: "ناولني، يا غلام، البيضة". فناوله إياها فقال الإمام الصادق عليه السلام: "يا ديصاني، هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة، هي على حالها لم يخرج منها مصلح، فيخبر عن إصلاحها، ولا دخل فيها مفسد، فيخبر عن فسادها، لا يُدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبّراً؟ فأطرق الديصاني، مليّاً، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"5.
وهذه المعرفة رغم قيمتها الكبيرة، إلا أنَّها لا تنعكس في السلوك، فقد يكون حال هذا العارف كالمعتقد بأن الميِّت لا يؤذي، لكنّه يخاف من النوم إلى جانبه. لذا لا بدّ من تفعيل هذه المعرفة من خلال السلوك من صلاة وصوم وحج ودعاء...
لكن هذا السلوك قد يكون جافًّا، فلا بدّ من ترطيبه من خلال التأمل بجمال الله تعالى وكماله الجاذب إلى حبِّه، لأن الإنسان مفطور على حبِّ الكمال، فحينها يُدرك معنى حبِّ لقاء الله.
لمَّا أراد الله تعالى قبض روح نبيّه إبراهيم عليه السلام أهبط إليه ملك الموت. فقال: السلام عليك يا إبراهيم، قال عليه السلام: وعليك السلام، يا ملك الموت، أداعٍ أم ناعٍ؟ فقال: بل داعٍ يا إبراهيم، فأجب. قال إبراهيم عليه السلام: فهل رأيت خليلاً يميتُ خليله؟ فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جلَّ جلاله، فقال: "إلهي، قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم، فقال الله جل جلاله: يا ملك الموت، اذهب إليه، وقل له: هل رأيتَ حبيباً يكره لقاء حبيبه؟ إنَّ الحبيب يحبّ لقاء حبيبه"6.
أمَّا الصفة الثانية للمؤهِّل للرحيل مع الحسين عليه السلام وهي أن يكون باذلاً في أهل البيت عليهم السلام مهجته، فهي لا تكون إلا من خلال الصدق في حبِّهم، لأنَّ فطرة الإنسان التي تدعوه إلى حبَِّ الكمال تدعوه إلى حبِّ الكمال المطلق أولاً، وبعده إلى حبِّ الأكمل من الخلقْ، وأكملُ الخلق هم محمّد وآل محمّد.
لذا ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"7.
ومن يحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ لقاءه.
وهذا هو سرُّ ابتسامة السيدة الزهراء عليها السلام بعد بكائها حينما أسرَّ إليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرتين، فسئُلت عن ذلك، فأجابت بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبرها أوَّل مرة أنَّه راحلٌ عنها، فبكت لفراقه، ثم أخبرها أنَّها أوّل اللاحقين به فضحكت للقائه.
وهذا هو سرُّ قول سعيد بن عبد الله الحنفي في عاشوراء: "أقدم حسين اليوم تلق أحمد..."8
وأكمل: وشيخك الخير عليّاً ذا الندا9.
لأنَّ عليًّا يمثِّل أكمل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحبُّ الإمام عليّ عليه السلام هو حبٌّ للكمال الإنسانيّ الثاني، لذا أحبَّ عارفوه لقاءه، فكانت البشارة عند موتهم.
وهذا ما حصل مع شاعر أهل البيت إسماعيل الحميري الذي كان عنده حصان جميل، له قيمة مرتفعة، كان يحمّله ويذهب إلى ساحة الأدب والشعر ويقول متحدِّياً: من نظم في منقبة من مناقب أهل البيت عليهم السلام لم أنظم فيها، فله هذا الحصان. فكان الشعراء كلَّما أتوا بقصيدة شعر في منقبة من مناقب أهل البيت عليهم السلام، قرأ عليهم شعراً من نظمه فيها، فلم يربح أحد حصانه. كما ربَّى هذا الشاعر أربع بنات، كلٌّ منهنَّ نظمت أربعماية قصيدة في أهل البيت عليهم السلام.
تجلِّيات الحبّ
إنَّ هذا الحبّ لمحمّدٍ وآل محمد هو الذي صنع لوحة كربلاء بأبهى صورها.
- وهو الذي جعل سعيد بن عبد الله الحنفي يدافع عن الإمام الحسين عليه السلام في صلاته يتلقَّى ثلاث عشرة نبلة في جسده، وطعنات سيوف ورماح. وحينما سقط مرتفعاً على عتبة الشهداء قال للإمام الحسين عليه السلام: "أَوفَيتُ يا بن رسول الله؟".
- وهو الذي جعل ذلك الأب الذي أسر ولده فدعاه الإمام الحسين عليه السلام إلى الرحيل لفكِّ أسره، فأجابه: "أكلتني السباع حيَّاً إنْ أنا فارقتك يا أبا عبد الله"10.
- وهو الذي جعل تلك الأم ترسل ولدها للقتال بين يدي الإمام الحسين عليه السلام، وحينما عاد قالت له: "لا أرضى عليك حتى تُقتل بين يدي الحسين عليه السلام ".
- وهو الذي جعل تلك الزوجة تحمل عموداً، وتلحق بزوجها تقاتل بين يدي الإمام الحسين عليه السلام.
ذلك الحبّ هو الذي جعلهم يبذلون في الحسين عليه السلام مهجهم، ويصبحون عشّاقاً شهداءَ، لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحق بهم من كان بعدهم.
* وأتممناها بعشر، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص 366.
2 سورة النساء، الآية 78.
3 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج6، ص 154.
4 المصدر السابق، ج44، ص 367.
5 الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص 124.
6 النوري، حسين، مستدرك الوسائل، ج2، ص95.
7 الري شهري، محمد، ميزان الحكمة، تحقيق دار الحديث، ط1، دار الحديث، (لا،ت)، ج1، ص 518.
8 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص 26.
9 المصدر السابق نفسه.
10 الأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج3 ص575.